الدولة بين العصبية والمواطنة
حسام ميرو
اعتبر ابن خلدون (1332-1406) في الفصل الثالث من مقدمته الشهيرة أن العصبية هي دعامة الدولة الرئيسية، وأنه بزوال تلك العصبية تزول الدولة نفسها، والعصبية بنظر ابن خلدون هي تلك الرابطة التي تجمع الأفراد القائمين على إدارة الحكم، والقائمة على النسب أو الانتماء إلى القبيلة ذاتها، وحدد ابن خلدون أطوار الدولة بخمسة، تبدأ ب«طور الظفر بالبغية، وغلب المدافع والممانع، والاستيلاء على الملك وانتزاعه من أيدي الدولة السالفة»، وتنتهي ب«هرم الدولة»، حين تفقد تلك العصبية قوتها، بعد المرور بحالة إشباع الحاكم لشهوة الاستبداد، والتفرّد ومن حوله بالثروات.
بقيت مقدمة ابن خلدون ملهمة لعلم الاجتماع السياسي على مدار قرون طويلة، فقد شكّلت نظرية في دراسة نموذج الدولة، وأسباب نشوئها وتحليل مراحلها وأسباب تداعيها وسقوطها، لكن هذه النظرية بقيت مرتبطة بنموذج محدد للدولة، وهو الدولة القائمة على الغلبة، مع الأخذ بعين الاعتبار أن هذا النموذج عرف توسّعاً في مفهوم العصبية، والتي لم تعد حكراً على عائلة أو قبيلة، وإنما أيضاً أصبحت تشمل الأحزاب والنخب العسكرية، كما في بلدان ما يسمى «العالم الثالث».
إن نموذج الدولة الذي تناوله ابن خلدون، ونظّر له، بقي ممتداً في الزمان والمكان العربيين، ففي القرن العشرين، قادت الدول الوطنية، في حقبة ما بعد الاستقلال من الانتدابات، عصبيات جديدة، لا تختلف في جوهر بنيتها عن البنى الموروثة تاريخياً، فقد أصبحت إدارة الأحزاب تحت سيطرة العائلات الحاكمة، وبالتالي فإن تلك «الدول الوطنية» لم تكن أكثر من مجرد تنويعٍ على دولة الغلبة، وهو ما يجعل من توصيف ابن خلدون لأطوار الدولة قابلاً للتطبيق على نموذج الدولة الوطنية العربية، فالأحزاب التي نشأت تحت مسميات وشعارات وطنية وقومية وحداثية لم تكن سوى غطاء لعصبيات كامنة، اختزلت الدولة في علاقاتها، ومصالحها، وأفرادها.
لقد وجدت تلك العصبيات الجديدة مناخاً دولياً سمح لها بالبقاء، فقد منحت الحرب الباردة غطاءً من الشرعية لأنظمة العالم الثالث، إذ إن القوتين العظمتين، الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة لم تكونا مهتمتين بطبيعة تلك الأنظمة، بل بمقدار ولائها، ما جعل من كل الديباجات حول الاشتراكية والديمقراطية مجردة من أي معنى حقيقي، فلا الاتحاد السوفييتي كان مهتماً بمقدار تطبيق الأنظمة الدائرة في فلكه للاشتراكية، ولا كانت الولايات المتحدة مهتمة فعلياً بتطبيق الأنظمة الدائرة في فلكها للديمقراطية، وما أن تداعى النظام الدولي في أوائل التسعينات من القرن الماضي حتى بدأ مسار تاريخي جديد، طال في تداعياته العالم العربي، خصوصاً في انكشاف وتعرية الأنظمة الحاكمة، التي بدت أحزابها ومنظماتها الحداثية مجرد قشرة، غير قادرة على ستر عورة عصبيات ما قبل الدولة، من مثل العائلة والعشيرة والطائفة والمذهب.
وفي مقابل دولة الغلبة القائمة على العصبية، عرفت أوروبا مساراً مختلفاً نحو دولة المواطنة، دفعت خلاله أثماناً باهظة على مدار قرون عدة، شهدت ثورات وحروباً، ذهب ضحيتها عشرات الملايين من أبناء القارة الأوروبية، وقد انتقلت أوروبا من حكم الأسر إلى حكم الشعب عبر ممثليه، مع تحييد الدين عن السياسة، وبقائه كساحة للقناعات الفردية والخاصة، وحماية العقائد وحريات التعبير على أنواعها، فلم تعد الدولة ملكاً لعصبية عائلية أو حزبية أو عسكرية، وإنما مؤسسة حيادية ضامنة لمصالح الجماعات والأفراد على حد سواء، ولم تعد الدولة دولة رعايا، وإنما دولة مواطنين أحرار.
دولة المواطنة والمواطنين تقوم على دعامتين رئيسيتين، هما الديمقراطية والعلمانية، وعلى مبدأ دستوري غير قابل للتجاوز، وهو تساوي المواطنين في الحقوق والواجبات، بغض النظر عن العرق أو الدين أو المذهب أو الجنس، وبالتالي فإن التنافس بين الأحزاب والنقابات والاتحادات أصبح من أجل تحسين شروط المواطنين الاجتماعية والاقتصادية، عبر البرامج الانتخابية، ما جعل من المواطن/ الفرد الأساس في قوة تلك التعبيرات السياسية أو ضعفها، فصوته يبقيها على قيد الحياة أو يجعلها تذوي.
إن تاريخ الدولة هو تاريخ الانتقال من دولة الغلبة إلى دولة المواطنة، وكل محاولة للوقوف في وجه هذا المسار التاريخي هي محاولة فاشلة، من شأنها أن تجر الويلات على الدول، وأن تحولها إلى ميدان للصراعات والحروب، وهذا ما نشهده اليوم في عالمنا العربي، فما زالت العصبيات الموروثة تحاول أن تسد الطريق أمام تدفق حركة التاريخ، من دون أدنى اعتبار للنتائج الكارثية من دمار وقتل وتشريد واستدعاء للقوى الخارجية.
husammiro@gmail.com