مقالات سياسية

الدول ومؤشّر مدركات الفساد

حسام ميرو

منذ عام 1995، تصدر منظمة الشفافية الدولية مؤشراً سنوياً لمدركات الفساد، يقوم بترتيب الدول من الأقل إلى الأكثر فساداً، وتعتمد المنظمة في تصنيفها للدول على عدد من المعايير القانونية والمؤسساتية والاجتماعية والاقتصادية والمعلوماتية، وهي تقوم بتحديث بياناتها بشكل دائم، لمواكبة المتغيرات في الدول، كما أن هذا المؤشر المهم لمدركات الفساد يساعد، بشكل كبير، على تحليل مجمل الأوضاع الموجودة في دولة ما، ومدى تقدمها، أو تراجعها، كما أن الدخول في تفاصيل التقرير السنوي يفيد في فهم الآليات التي تترابط فيها المؤشرات، إذ إنه، على سبيل المثال لا الحصر، لا يمكن أن يتقدم التعليم في دولة تعاني حرباً أهلية، أو أنه لا يمكن لدخل الفرد السنوي أن ينمو في ظل تراجع، أو انعدام آليات الحوكمة والمساءلة.

يعرّف البنك الدولي الفساد بأنه «شكل من أشكال خيانة الأمانة، أو الجريمة، يرتكبها شخص، أو منظمة يُعهد إليها بمركز سلطة؛ من أجل الحصول على مزايا غير مشروعة، أو إساءة استخدام تلك السلطة لمصلحة الفرد»، وبناءً على هذا التعريف فإن الفساد مرتبط بشكل رئيسي وبنيوي بحيازة السلطة، أياً تكن، سياسية أو تنفيذية، وبالتالي فإن شرط حدوث الفساد هو فساد من هُم في موقع السلطة، لكن هذا الشرط، وإن كان ضرورياً لفهم الترابط بين السلطة والفساد، لكنه ليس كافياً لفهم الديناميات التي تسمح من الأساس بأن تكون السلطة نفسها، كلياً أو جزئياً، هي من يمارس الفساد.

ومن أجل فهم ظاهرة الفساد معرفياً وعلمياً، ينبغي تفكيك مؤشر مدركات الفساد بطرق عدة، من بينها طريقة المقارنة، فإذا أخذنا نسخة عام 2019 من هذا المؤشر، فإننا سنجد أن الدول التي تحتلّ المراتب الخمس الأولى في رأس القائمة، أي الدول الأقل فساداً في العالم (الدانمارك، نيوزيلندا، فنلندا، السويد، سنغافورة)، هي دول ذات نظام سياسي ديمقراطي، ما يجعل بشكل ما من النظام الديمقراطي نظاماً أقلّ فساداً، لكن أيضاً لا يمكن تعميم هذا الاستنتاج، بل ينبغي أخذه كمؤشر من بين مؤشرات أخرى، أما الدول الخمس في ذيل قائمة المؤشر (السودان، اليمن، سوريا، جنوب السودان، الصومال)، فهي دول تعيش حالة اضطراب واقتتال داخلي، ما يعني أن دخول أي دولة في حالة اضطراب، أو اقتتال أهلي، يجعلها بيئة مثالية لتحوّل الفساد إلى قانون يحكم مجمل العلاقات.

وفي المؤشر ذاته، دولة الإمارات العربية المتحدة هي الأولى عربياً، وفي مرتبة متقدمة عالمياً، (المرتبة 21)، وهي تسبق كل من فرنسا (المرتبة 23)، والولايات المتحدة الأمريكية (المرتبة 23)، بينما يأتي العراق في المرتبة 162، أي تقريباً في ذيل القائمة، التي تضم 179 بلداً، على الرغم من كون العراق هو رابع أكبر منتج للنفط في العالم، ومع ذلك، فإن الريوع النفطية الكبيرة لم تسهم في التقليل من حجم الفساد، بل ربما زادت من حدّته، من خلال التنافس على التحكّم في هذه الريوع، عبر السلطتين السياسية والتنفيذية، في بلد يعاني انقسامات سياسية حادة، ونظام محاصصة طائفياً.

لبنان أيضاً، يحتلّ موقعاً متأخراً، فهو يتشارك المرتبة 137، مع عدد من الدول الإفريقية، ونظامه السياسي، كما النظام العراقي، يقوم على المحاصصة الطائفية، وهذا الشكل من أشكال الأنظمة السياسية، هو بطبيعته منتج للفساد، فالنظام السياسي الطائفي يقوم على المحسوبيات والولاء، وليس على الكفاءات، كما أن الخطط الحكومية توضع فيه لإرضاء القوى السياسية الطائفية، وليس من أجل المصلحة العامة، ومن الطبيعي بمكان، أن تصبح السلطة في نظام كهذا، المدخل إلى مراكمة الثروة، أي إلى زيادة منسوب الفساد، وتعميق أسبابه بشكل مستمر.

والدول التي تأتي في مرتبة متقدمة، تنعكس فيها قوة الحوكمة والمساءلة على جودة الحياة في أشكالها كافة، أي على البنى التحتية والخدمية التي تمسّ حياة المواطنين بشكل يومي، ومباشر، من مثل التنقّل، والصحة، ومستوى المناهج والمؤسسات التعليمية والأكاديمية، والبحث العلمي، وقوة وعدالة الحصول على الخدمات، وغيرها من أساسيات الحياة اليومية/ المعيشية.

إن قياس كفاءة أي نظام سياسي لدولة من الدول، تتمّ عبر مؤشرات عدة، من بينها، وربما من أهمها، مؤشر مدركات الفساد، فالنظام السياسي الذي يضمن مستويات متقدّمة من الحوكمة والمساءلة والشفافية، قادر على صياغة معادلات اجتماعية واقتصادية تسهم في استقرار المجتمع وازدهاره وتقدّمه، فكفاءة المؤسسات ونزاهتها شرط لا غنى عنه في تحقيق مستوى مستدام من العدالة والإنصاف.

زر الذهاب إلى الأعلى