الديمقراطية الرقمية في كينيا
تأليف: نانجالا نيابولا
ترجمة وعرض: نضال إبراهيم
خلّف العصر الرقمي آثاراً دراماتيكية على المجتمع والسياسة في أغلب دول العالم، وكينيا نموذج بارز من بينها، فهي اليوم من أكثر الدول تقدماً على الصعيد الرقمي في إفريقيا جنوب الصحراء، وتعد مواقع التواصل الاجتماعي مثل (فيسبوك، تويتر، واتس آب) جزءاً مؤثراً في الحياة اليومية لمواطنيها، وتسلط الضوء على الاختلالات الموجودة على الواقع. يهدف هذا الكتاب إلى تقديم مساهمة في النقاش حول الديمقراطية الرقمية في كينيا، والسعي إلى بناء مجتمعات جديدة تتخطى الانقسامات العرقية والجنسانية القديمة.
في كتابها «الديمقراطية الرقمية، السياسة التناظرية: كيف يقوم عصر الإنترنت بتغيير كينيا؟» الصادر عن دار «زيد بوكس» في نوفمبر/ تشرين الثاني 2018 ضمن 216 صفحة من القطع المتوسط، تستكشف الكاتبة والمحللة السياسية الكينية نانجالا نيابولا، المعرفة الرقمية والتكنولوجية في إفريقيا ، وتحديداً في بلادها كينيا، من خلال مناقشة كيفية تأثير الدولة وسياسة الفضاءات غير المتصلة بالإنترنت في ما يحدث عبر الإنترنت.
غالباً ما يطلق على كينيا اسم «سيليكون سافانا» في إفريقيا بسبب نجاح الابتكارات الرقمية مثل «أوشاهيدي»؛ وهي منصة تجنّد الجماهير في النشاط الاجتماعي، بسبب الاستخدام واسع النطاق لخدمات الدفع والصيرفة عبر الهاتف النقال. وقد احتفلت الحكومة الكينية بهذه «السمة الاقتصادية» وربما كانت المحصلة غير المقصودة (بالنسبة للدولة) للاحتفال بهذا الحدث هي الفضاء الرقمي الديناميكي، حيث تمكن العديد من الكينيين الذين لم تكن أصواتهم لتسمع بطريقة أخرى في الأماكن العامة، من التشكيك في الأنظمة السياسية والاجتماعية للبلاد، وكذلك التواصل مع الأفراد ذوي التفكير المماثل لصياغة جداول أعمال سياسية جذرية جديدة.
وعلى الرغم من أن الدولة حاولت خنق هذه النقاشات بشتى الوسائل، مثل مشروع قانون الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، إلا أن التزام الدولة بطرح نفسها على أنها ليبرالية وعالية التقنية قد سمح لهذه الفضاءات الرقمية بالازدهار.
التكنولوجيا والديمقراطية
ترى الكاتبة أن المعرفة الحالية المتعلقة ب»التكنولوجيا في إفريقيا» تميل إلى وجودها ضمن إطار مصطلحات تنموية مبسطة بشكل مفرط، وتفشل في تفسير تأثير الدولة والسياسة في الأماكن غير المتصلة بالإنترنت التي لها علاقة بكل ما يحدث عبر الإنترنت. كما تتراجع عن الناحية المنهجية ضد هذه الروايات المختزلة بسردها لقصة وصفية تجريبية منمقة للدائرة التي تعمل من خلالها السلطة في كينيا، والطريقة التي تتألق بها، وتتعقد عند تقاطع المجال العام التقليدي، ومن ثم توسيع نطاق هذا المجال عبر الإنترنت.
وترفض الكاتبة بشكل متعمد، التعامل مع وجهة النظر الساذجة والتفاؤلية التي تفيد بأن المزيد من التكنولوجيا يساوي المزيد من الديمقراطية.
وتتناول نيابولا وجهة نظر الفيلسوف الألماني يورجن هابرماس التي ترى أن التواصل هو أساس السلوك البشري؛ وفي المجال العام يتم التفاوض على الأفكار ويؤدي ذلك إلى إنتاج إرث وطني. تتساءل: «من يهمه الصوت في المجال العام؟ وهل المجال العام مقتصر على المجال السياسي الأبوي الرسمي، أم أن الأفكار والآراء المتولدة في المجالات الأخرى التي تشكلها الحدود الاجتماعية والثقافية أيضاً ذات أهمية؟ إذا كان الأمر كذلك، فكيف أصبحت بهذه الأهمية؟ تقول نيابولا إن وسائل الإعلام لها دور كبير كموقع يتيح لإجراء مناقشات في هذه المجالات وعبرها لإنتاج مجتمع أكثر تمثيلاً.
الظروف السياسية
يصف الجزء الأول من الكتاب بعنوان «السياسة التماثلية» والمقسم إلى أربعة فصول، الظروف السياسية في فترة الانتخابات الكينية لعام 2007 التي هيأت البلاد من أجل التغيير الرقمي. فقد حطم انهيار «تحالف قوس قزح الوطني» آمال الشعب الكيني الذي اعتقد أن سنوات الفساد خلال حكم نظام الرئيس السابق دانيال آراب موي قد انتهت. وبدلاً من ذلك، فإن الإدراك بأن الحكومة قد أصبحت عرقية بشكل صارخ أدى إلى خلق انقسام بين الجماهير.
وعندما فُضح أمر المخالفات في الانتخابات التي جرت عام 2007، وانفجرت التوترات المحتدمة، وأعقبت ذلك أعمال العنف، تم في تلك الأثناء حظر البث المباشر، وتكميم الصحافة الكينية، وفي هذا الإطار جرت الاعتقالات بحق المتعلمين، والمهتمين بالشتات في الخارج، والجماهير المتعطشة لكتابة التقارير الإخبارية وسط صدام بين الصحافة العالمية ووسائل الإعلام الكينية الخاضعة للرقابة الذاتية، والمروضة حكومياً.
وفي الجزء الثاني بعنوان «الديمقراطية الرقمية» الذي يحتوي على أربعة فصول، تتبع نيابولا تطور هذه الخطابات من فترة انتخابات 2007 إلى الانتخابات الكينية لعام 2017. وهي تركز في الأغلب على الخطاب الذي أنشأته مجموعة (#KOT) الكينية على تويتر، على الرغم من أنها تتطرق إلى الاستخدام المتنامي لمنصات أخرى مثل «واتس آب» و»فيسبوك»، وغيرهما..
وتصف نيابولا الطرق التي مارستها مجموعة (كوت) لتغطية الوقائع؛ مثل التصدي للتأطير المحدد للوقائع من قبل وسائل الإعلام الأجنبية بروح الفكاهة والإبداع والسخرية، وكذلك ضد الروايات الرسمية، وبالتالي عرّض هذا الأمر الحكومة للمساءلة. وتصف «المستخدمين المتميزين» على تويتر (مستخدمين بأعداد كبيرة من المتابعين) كقادة فكر لديهم القدرة على تشكيل المناقشات عبر الإنترنت وتوسيعها.
وتركز نيابولا على «تويتر» لأنها ترى أنه يسمح للمستخدمين بمشاركة المحتوى العام والتفاعل مع بعضهم بعضاً، بالمقارنة مع «فيسبوك»، حيث يقتصر الارتباط على دائرة الأصدقاء. وتعترف نيابولا بأن الأمية الرقمية وحواجز البنية التحتية، مثل نقص الكهرباء أو الاتصال بالإنترنت، تحد من عدد الأشخاص المتصلين بالإنترنت في كينيا. وتشير إلى أنه حتى نهاية عام 2018، وجد أن مليون كيني متحدّث بالإنجليزية يستخدم تويتر في المناطق الحضرية إلى حدٍ كبير، وعشرة ملايين من مستخدمي الواتس آب في بلد يبلغ تعداده نحو 50 مليون نسمة. وتقدّم الكاتبة مقارنة منتظمة بين استخدام هذه المنصات، وعلاقتها مع الأجندات السياسية التناظرية.
تدخلات رقمية في السياسة
وعلى الرغم من أن نيابولا متفائلة بشأن الإمكانات السياسية للفضاء الرقمي في كينيا، فهي ليست ضعيفة التمييز لبنية الفضاء نفسه. وتدرك أن العديد من هرميات السلطة في الفضاءات غير المتصلة تميل إلى التكاثر عبر الإنترنت. على سبيل المثال، تلاحظ أن النساء يتعرضن لمزيد من المضايقات على الإنترنت أكثر من الرجال. وتخصص الكاتبة ضمن هذا الجزء فصلاً تتناول فيه بالتفصيل تنظيم الحركة النسائية الكينية الراديكالية على الإنترنت بشأن قضايا مهمة مثل العنف المنزلي، والتحرش بالنساء في الأماكن العامة، والتمثيل الكافي للنساء في البرلمان بما يتماشى مع الدستور، فضلاً عن رد الفعل الذي أثاره هذا التنظيم. وهي تشخص فشل المنظمات التقليدية التي تعمل على تمكين النساء من أن تأخذ هذه المحادثات عبر الإنترنت حول الحركة النسوية على محمل الجد.
وتوضح نيابولا أن التكنولوجيا ليست محايدة على الإطلاق، وأن المنصات التي ينطلق منها الخطاب في العالم الرقمي تملكها وتسيطر عليها شركات أمريكا الشمالية التي يحركها الربح. وبالتالي يمكن للأشخاص الذين يملكون المال التلاعب بهذه المنصات: على سبيل المثال، عن طريق إنشاء حقول روبوتية لفرض المحتوى على المستخدمين، وتشغيل حملات تشويه، ونشر معلومات كاذبة، وتشكيل رأي المستخدمين من دون الحصول على موافقتهم.
وتشير إلى أنه يشتبه في قيام روسيا بمثل هذه الحروب الرقمية خلال انتخابات عام 2016 في الولايات المتحدة، كما سخرت شركات مثل «كامبريدج أناليتيكا» بيانات مستخدمي «فيسبوك» لتغيير الرأي العام خلال استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي عام 2016.
وتجادل نيابولا بأن معالم هذه المنصات لم تتم دراستها بشكل كافٍ في جنوب الكرة الأرضية. وكتبت أن هذا بسبب «سوسيولوجيا الغياب: الفكرة التي تفيد بأنه نظراً لأن روايات هذه المنصات تتلاعب بوسائل الإعلام الغربية، فإن تجربة استخدام هذه المنصات في كينيا لا تمت لها بصلة. ومع ذلك، توضح نيابولا أن هذا ليس هو الحال ببساطة. ويُعتقد أن «كامبريدج أناليتيكا» قد استخدمت انتخابات عام 2013 في كينيا كاختبار للطرق التي تم نشرها لاحقاً في أماكن أخرى. فإذا كان العالم يبدي الانتباه، فقد تم تجنب الأزمات الحالية المتعلقة بالتدخل في الانتخابات الأمريكية واستفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
استعمار جديد
تقول نيابولا أنه في الانتخابات الكينية لعام 2017، اعتمد كل من الحزب الحاكم والمعارضة في كينيا على خبراء تكنولوجيا المعلومات خلال حملاتهم، وهي تحذر من أن استخدام هذه الأنماط الرقمية لتشكيل الرأي العام وعدم وجود أي قوانين بشأن خصوصية البيانات قد فتح الباب للدخول إلى حدود جديدة للاستعمار الجديد، والتي تستحق المزيد من الدراسة.
في الجزء الثالث من الكتاب بعنوان «عدم التعلّم من التاريخ»، تنتهي نيابولا بمناقشة حول انتخابات 2017. وتشير إلى أنه على الرغم من وجود نظام إدارة الانتخابات المتكاملة في كينيا المعروف اختصاراً باسم (KIEMS) الذي تم وضعه لمنع التلاعب بنتائج الانتخابات، إلا أنه وقعت مخالفات هائلة أدت إلى إلغاء المحكمة العليا لنتائج الانتخابات. تقدم نيابولا وصفاً مفصلاً حول كيفية قيام مجموعة (كوت) بدفع نفسها إلى التقاط صور للنتائج في مراكز الاقتراع لمقارنتها بالنتائج المعلن عنها، ولعبت دوراً رئيسياً في وضع العملية للمساءلة في الفضاء العام. من خلال هذا المثال، تُظهر أنه لا يمكن لأي قدر من التكنولوجيا أن يحل محل نوايا الدولة.
ما يوضحه هذا الكتاب هو أن الكينيين مصممون على استعادة زمام الأمور لتشكيل قصصهم الخاصة بهم، وتوضح نيابولا كيفية قيامهم بذلك عبر منصات رقمية لابد أن تؤخذ على محمل الجد، لما تتركه من تأثير في الحياة اليومية لشعب كينيا الذي يسعى إلى حياة أفضل، ومستقبل مشرق.
نبذة عن الكاتبة
نانجالا نيابولا كاتبة كينية، محامية في مجال حقوق الإنسان، ومحللة سياسية تقيم في نيروبي. تكتب في العديد من الصحف والمواقع العالمية الناطقة بالإنجليزية، عن القضايا الإفريقية، وكيفية السير بإفريقيا إلى بر الأمان، والقضاء على الأمية، وكيفية تحسين توزيع الثروات، وتأمين المزيد من فرص العمل، وأهمية العالم الرقمي في مسار التنمية الشاملة.