الديمقراطية في عالم سياسي مضطرب
تأليف: جلعاد أتزمون
ترجمة وعرض: نضال إبراهيم
كسرت أحداث عام 2016 وعلى رأسها خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وصعود ترامب إلى الرئاسة الأمريكية القالب الذي شكل أفكار الديمقراطية والسياسة والهوية الاجتماعية. في هذا الكتاب يجادل جلعاد أتزمون بأن اليسار واليمين أصبحا لا يمكن تمييزهما، ولا معنى لهما في عالم ما بعد السياسة الذي نعيش فيه الآن، وأن الكثير من البشرية بات في خدمة مصالح المال والأوليغارشية. يتعمق الكتاب في إفلاس الروايات الإيديولوجية الكبرى.
يتسم الكتاب بأهمية، حيث يستكشف الفشل الهائل للإعلام والأوساط الأكاديمية والسياسة في الكشف عن الأحداث التي أدت بنا إلى الحالة المزرية التي نعيشها في عالم اليوم. ويحدد الإيديولوجيات التي غرست سياسات الاستبداد واستبداد الصواب السياسي في وسطنا، إذ أصبح الناس مجرد جمهور في مأساة يونانية تروي قصة تدميرهم.
يحدد هذا الكتاب التحولات الثقافية والإيديولوجية التي كان من المفترض أن تحررنا ولكن في النهاية، أدّت إلى العكس تماماً، ويسلط الضوء على الوسائل والآليات التي سلبت منا قدرتنا على التفكير والشعور، وعلى اتّباع قواعد العقل، والتصرف بناءً عليها.
على الرغم من أن هذا الكتاب ينتقد اليسار واليمين، إلا أن جزءاً كبيراً منه يركّز على الإيديولوجيات والخطابات المعاصرة ذات «الميول اليسارية» ولا يوافق عليها. ويقول الكاتب في هذا السياق: «لأكون صادقاً، أشكو من اليسار لأنني أهتم به في الواقع. لسبب أو لآخر أتوقع الأكثر من عالم إيديولوجي يدّعي الالتزام بالأخلاق العالمية وتوزيع العدالة».
عنوان هذا الكتاب هو صدى لكتاب الفيلسوف الألماني مارتن هايدجر «الكينونة والزمان» (1927). يقول الكاتب: بالنسبة لهايدجر أن تكون.. أي أن تتواجد في الزمن، والميتافيزيقيا هي تاريخ نسيان الوجود. ويشير الكاتب إلى أنه في عام 2017 الذي كان يعمل فيه على الكتاب كان يأمل أن تحدث دعوة للاستيقاظ أو النضال من أجل فهم الآلية التي تشكل كينونتنا وتشكّل العالم من حولنا.
ويأتي كتابه بعنوان «التواجد في الزمن: بيان ما بعد السياسي» الصادر عن دار «سكايسكريبر» في 215 صفحة من القطع المتوسط كمحاولة لمعايرة قدراتنا وحواسنا البشرية في عالم تحول إلى أرض معادية. والكتاب مقسم إلى قسمين: يبدأ الأول منه بدراسة فلسفية للوضع السياسي ما بعد الحرب الباردة. ويعيد تعريف معنى اليسار واليمين. ويعيد النظر في الصراع السياسي بين الاثنين. ثم يحدد العناصر الإيديولوجية والثقافية التي أدت إلى انهيار «السياسة» كما نعرفها.
يتعامل القسم الثاني من هذا الكتاب، ليس مع اليهود، ولكن مع الفكر والثقافة اليهودية، ويناقش الكاتب فيه عمل المؤرخ اليهودي الأمريكي يوري سيلزكين (ولد 1956) في كتابه «القرن اليهودي» الذي يؤكّد فيه بشكل جريء أن «العصر الحديث هو العصر اليهودي، ونحن جميعاً، وبدرجات متفاوتة، يهود». يتسق الجزء الثاني من الكتاب مع الملاحظة المجازية لسيلزكين، ويقول أتزمون حول ذلك: لقد دفعتني محاولاتي لفهم التحولات الفكرية والإيديولوجية، التي أوصلتنا إلى حيث نحن، إلى استنتاج أنه كانت وما زالت الإيديولوجيات، اليهودية العلمانية والليبرالية والثورية والتقدمية تلعب الدور الرئيسي في التحول السياسي ما بعد الحرب الباردة. يحاول هذا القسم تحديد هذه الأساليب والاستراتيجيات اليهودية.
ديمقراطيات جوفاء
يشير الكاتب إلى أن ما يحدث في العالم هو حالة من الدمار، والشعارات الديمقراطية جوفاء، وخلقت حالة من التهميش والقهر، ويعلق: «لبعض الوقت، نحن الأشخاص الذين يعيشون على هذا الكوكب، قد تحولنا إلى جمهورٍ أكثر لدراما مدمرة تروي قصة تدميرنا. فعلى الرغم من كل الوعود الديمقراطية والليبرالية، نحن لسنا لاعبين، بل منسيون، لا صوت لنا».
ويقول عن الانتخابات الأمريكية التي جلبت ترامب إلى سدة الرئاسة: «بعد أن راقبتُ الانتخابات الرئاسية الأمريكية في الساعات القليلة الأولى في التاسع من نوفمبر/تشرين الثاني 2016، علمتُ أن تطلعات مرشحة الحزب الديمقراطي كانت معلقة بخيطٍ رفيعٍ. كانت هيلاري كلينتون تأمل في أن تنقذها أصوات الناخبين «من الأصول الإسبانية» في فلوريدا. في الواقع، كانت تأمل أن يكون المرشح الجمهوري، دونالد ترامب، قد تمكن من إغضاب عدد كافٍ من اللاتينيين لضمان انتخابها».
ويضيف: «في وقت لاحق، ومع تقدم المساء، علمنا أن فرص كلينتون في أن تصبح الرئيس القادم تعتمد على شريحة أخرى من السكان الأمريكيين أي «النساء المستقلات في فرجينيا». في الواقع، كانت استطلاعات الرأي طيلة الليل على القنوات الإخبارية التلفزيونية المختلفة، تحلل الفرص المتضاربة للمرشح الديمقراطي من حيث إخفاقها في مختلف القطاعات المحددة ذاتياً أو الاستباقية».
ويرى أتزمون أن «الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2016 كشفت عن أن الولايات المتحدة مقسمة إلى معسكرين: الأمريكيون والمتعصبون لهوياتهم. الأمريكيون هم أولئك الذين يرون أنفسهم في المقام الأول كوطنيين أمريكيين، وهم مدفوعون بجذورهم وتراثهم. بالنسبة لهم، يؤكد وعد ترامب ب«جعل أمريكا عظيمة مرة أخرى» أن اليوتوبيا هي الحنين إلى الماضي، وأن العروض التقدمية والليبرالية ليست سوى كارثة مستمرة».
«من ناحية أخرى، فإن الأشخاص المتعصبين لهوياتهم، هم أولئك الذين يشتركون في السياسة الليبرالية والتقدمية؛ فهم يرون أنفسهم «في المقام الأول» على أنهم مثليون جنسياً، ولاتينيون، وزنوج، ويهود، ونسويون، إلخ. وارتباطهم بالروح الوطنية الأمريكية هو أمر ثانوي، بل وغالباً ما يكون غير موجود. لكن جدول أعمال «المتعصبين لهوياتهم» جاء بنتائج عكسية. لقد كانت مسألة وقت قبل أن يدرك ما يسمى «البيض» و«المتخلفون» و«المستهجنون»، والرجعيون، أن ظهورهم كان ضد الجدار، وأنهم بدؤوا أيضاً في العمل والتفكير لقطاع سياسي استبدادي. أصبح العلم الأمريكي لهؤلاء الناس الرمز الذي يعرّفهم ويوحّدهم».
مجتمع أورويلي
يقدّم الكاتب تشبيهاً لعمله الذي يحاول فيه فهم معنى ما يجري، والوضع السياسي الذي لا يجد الشعب نفسه ممثلاً فيه في ديمقراطية من المفروض أنها تعد أعرق الديمقراطيات، ويقول: «أولئك الذين درسوا منا بشكل نقدي تطور سياسات اليسار الجديد والتقدميين والليبراليين والمتعصبين لهوياتهم لم يتفاجؤوا بنجاح دونالد ترامب. وبالفعل فإن هزيمة المعسكر الآخر في استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي «بريكست»، سبق أن كشف عن إرهاق مماثل بين العمال البريطانيين. لكن ما هي طبيعة هذا الإرهاق؟»
ويضيف: «أصبحت أحياؤنا المالية المتمدنة مكتظة بناطحات السحاب الزجاجية المصممة بشكل مجازي لتنقل الشفافية وكذلك الهشاشة. لكن عندما تقترب من هذه الأبراج الزجاجية تدرك أن الحائط الذي أمامك ليس نافذة، بل مرآة. وعندما تحاول أن تنظر خلسةً إلى الداخل فكل ما تراه هو أنك ترى نفسك تقف في الخارج».
ويقول الكاتب متأسفاً: «في هذا الحي (العالم) ما بعد السياسي الذي نعيش فيه، تم تقليص الكثير من الإنسانية لخدمة مصالح المال الكبير، وشيطان الجشع، والأوليغارشية»، مضيفاً: «وكل هذا يحدث مع وجود اليسار واليمين. هذان القطبان السياسيان المألوفان كما عهدناهما دائماً، لأنه لا يمكن التمييز بينهما وهما عصيّان على الفهم. فحرية التفكير علانيةً والتحدث صراحة موجودة، لكنها باتت مجرد مفاهيم نوستاليجية. لقد تحولت اليوتوبيا الغربية الليبرالية لدينا إلى مجتمع أورويلي خيالي فاسد».
صراع العبث: اليسار واليمين
يتوقف الكاتب عند اليسار واليمين، معلقاً على سلوك هذين الاتجاهين السياسيين الحاكمين، قائلاً: من وجهة نظر فلسفية عالمية وإنسانية، كل من اليسار واليمين عالميان في تطلعاتهما وأخلاقيان إيديولوجياً. كلاهما يحاول وصف الظرف الإنساني، وكلاهما يقدّم رؤى من شأنها أن تضخّم ما يعتبرانه «التجربة الإنسانية».
«كان اليمين واليسار يتصارعان إيديولوجياً، وسياسياً، وثقافياً لفترة طويلة. عندما يفكّر أحدهم بكتلة التفكير الهائلة، والأفكار النقدية، والمواقف المقدمة من وجهة نظر اليمين واليسار. ربما يختصر الواحد منا تاريخ الفكر السياسي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ومعظم القرن العشرين، كصراع لا هوادة فيه بين هاتين الرؤيتين المتخاصمتين».
ويضيف: «يضع اليسار التقليدي رؤية عن شكل العالم الذي يجب أن يكون عليه. تلخص رؤية اليسار كاعتقاد أن العدالة الاجتماعية هي المطلب الأساسي لأجل تحسين العالم، وهذا المستقبل الأفضل يلزم السعي إلى المساواة في أشكال مختلفة. فالإيديولوجي اليساري يعتقد أنه على الصعيد العالمي من الأخلاقي محاولة مقاربة المساواة من ناحية الحقوق المدنية والثروة المادية».
«لكن إذا ما ركز اليسار على «ما يمكن أن يكون»، وركز اليمين على «ما يكون»، وإذا ما عمل اليسار على المكان الذي يمكن أن يكون فيه الناس، وعمل اليمين على المكان الذي يتواجد فيه الناس، أو على الأقل، حيث يؤمنون بما يجدون أنفسهم فيه، تجد أن اليمين لا يهدف إلى تغيير الواقع الاجتماعي الإنساني، بل الاحتفاء به، وحتى تضخيمه. كما أن اليمين مرتبط أيضاً بالتجذّر الذي غالباً ما يكون نوستاليجياً وبصبغة رومانسية».
«وتجد اليسار يتوق إلى المساواة، لكن بالنسبة لليمين، يعدّ المشهد الإنساني متنوعاً ومتعدد الأوجه، وليس متسامحاً مع اللامساواة بل يقبلها كجزء من الظرف الإنساني، أي كجزء طبيعي من عالمنا المادي والروحي والاجتماعي. ووفقاً لذلك، تشمل إيديولوجية اليمين درجة محددة من التصميم البيولوجي وحتى الداروينية الاجتماعية. بالنسبة لإيديولوجية اليمين، إنها «إرادة الحياة» وحتى اكتساب السلطة هي التي تجعل التفاعلات الاجتماعية مثيرة. وهي النضال ذاته الذي يحيي الإنسانية».
انزلاقات النظام السياسي
يطرح الكاتب في الفصل الثالث بعنوان «ولايات الانفصال المتحدة» العديد من التساؤلات مثل: «كيف استطاع النظام السياسي أن ينزلق بهذا الشكل؟ متى أصبح يخدم ذاته فقط ويعيش منعزلاً؟ متى فقدنا قدرتنا على التحدث؟ متى حدث التبادل بين التمزق السياسي والإنساني؟ لماذا كان القطاع الأكاديمي صامتاً عندما سُلبنا من أهم حرياتنا؟ لماذا لا تزال صامتة؟ لماذا يبقى اليسار صامتاً عندما تم التخلص من التصنيع؟ ولماذا لا يزال اليسار مشلولاً؟»
ويضيف: منذ أواخر السبعينات، هناك توجهان سياسيان أساسيان غيّرا الطريقة التي نتفاعل بها ونفسّر بيئاتنا السياسية والاجتماعية والثقافية. التوجّه الأول هو الصواب السياسي والثاني هو سياسة الهوية. هاتان الموجتان من التفكير، مرتبطتان بشكل كبير مع تفكير اليسار الجديد، ونضجتا في أواخر الثمانينات إلى موجات مدّية أزالت عدداً من مدارس التفكير الغربية الأساسية والتقليدية. هذا التحول أزال القوى القديمة والمهيمنة: الكنيسة، والقيم العائلية، والنخبة الثقافية، كما قضت على بعض الحريات البسيطة في قلب الثقافة الغربية. قام التوجهان (الصواب السياسي وسياسة الهوية) بعمل ثوري في الطريقة التي نتفاعل فيها مع بعضنا البعض، ونفهم بها واقعنا المحيط بنا. ولم تكن نتائج هذه التغيرات إيجابية. فقد قضينا بشكل طوعي على قدرتنا في السيطرة على العالم من حولنا. نحن في حالة من الانفصال المفروض ذاتياً.
ويشير إلى أن «الرأسمالية، وتحديداً الرأسمالية القاسية، مقودة بمبدأ البقاء أو النجاة للأصلح. والداروينية الاجتماعية هي هيكل التفكير المخصص لفهم دينامية البقاء أو النجاة. ومع ذلك نظامنا النظري والتحليلي والأكاديمي خاضع لاستبداد الصواب السياسي الذي يكون ضد الداروينية بطبيعته. في حين أن ثقافة الشركات الغربية تكون موجّهة بمبدأ التراتبية الصارمة المعرّفة بالنجاة أو البقاء للأصلح أو الأنسب، يقوم القطاع الأكاديمي والإعلامي والثقافي بقمع أي محاولة لفهم المعنى».
نبذة عن الكاتب
**جلعاد أتزمون ولد في 9 يونيو/حزيران 1963 في أسرة يهودية علمانية في «تل أبيب»، ونشأ في القدس. وهو عازف ساكسفون لموسيقى الجاز، وروائي، وناشط سياسي. يهتم بأبحاثه في استكشاف موسيقى الشرق الأوسط والموضوعات السياسية. وله كتابات ينتقد فيها بشدة النظام السياسي في «إسرائيل»، وله العديد من الأعمال الجدلية حول الهوية اليهودية. وقد أدت انتقاداته للصهيونية والهوية اليهودية، وكذلك وجهات نظره المثيرة للجدل حول إنكار»الهولوكوست» والتاريخ اليهودي إلى اتهامه بمعاداة السامية والعنصرية من قبل الصهاينة. أصبح مواطناً بريطانياً في عام 2002. وتخلى عن جنسيته «الإسرائيلية»، ويعرف نفسه بأنه «بريطاني يتحدث العبرية»، و«يهودي يكره نفسه».