الدَّين أو الديمقراطية
تأليف: ماري ميلر/عرض وترجمة: نضال إبراهيم
في أعقاب الأزمة المالية العالمية الأخيرة، كانت معظم النقاشات تركز على مسائل الدَّين، والأنظمة السياسية التي تتحكم بالرأسمال، وتوظفه بطريقة غير ديمقراطية، لا تلبي تطلعات الشعوب، إلا أنه تبين أن السؤال المهم، من بين الكثير من الأسئلة، ليس هو من يملك ما يملكه، ولكن من يسيطر على خلق وتوزيع المال في المقام الأول. تحاول مؤلفة هذا العمل البحثي الاقتصادي – السياسي – الاجتماعي أن تقدّم تحليلاً جديداً للأزمة الاقتصادية العالمية المرتبطة بفشل الأنظمة السياسية في إدارتها للموارد والمال، وتسعى إلى تقديم بدائل جذرية مقنعة لخلق مستقبل أكثر عدلاً واستدامة. وتتحدى من خلال أطروحاتها هوس الليبرالية الجديدة بالدَّين العام والعجز، مشيرة إلى أن المشكلة الأكثر خطورة، هي خلق المال المخصخص من خلال الديون المصرفية التي تؤدي إلى الكساد.
ماري ميلر أستاذ فخري في جامعة نورثمبريا بالمملكة المتحدة، حيث كانت من الرؤساء المؤسسين لمعهد أبحاث المدن المستدامة في الجامعة. وقد نشرت على نطاق واسع عن الاقتصادات البديلة المتداخلة مع وجهات النظر الاشتراكية، النسوية والخضراء، وتعمل على العديد من المشاريع المتعلقة بالنسوية والسياسة والاقتصاد والتمويل، وتأثير المال في العدالة الاجتماعية والاستدامة، والقضايا البيئية، وخاصة الاقتصاد الأخضر، لها العديد من المؤلفات والمقالات والدراسات منذ بداية الثمانينات وحتى الآن، منها: «النسوية والبيئة» (1997)، «مستقبل المال: من الأزمة المالية إلى الموارد العامة (2002)، ونشرت مع الكاتبين فرانسيس هاتشينسون وويندي أولسن»سياسة المال: نحو الاستدامة والديمقراطية الاقتصادية (2002). كما خاطبت الجماهير في أجزاء كثيرة من العالم في قضايا تتعلق بالنسوية والإيكولوجية والعمل عند النساء والبيئة، من هذه الدول كندا والولايات المتحدة وكوستاريكا واليابان وأستراليا والبرتغال وإسبانيا وألمانيا ومالطا. وقد ترجمت أعمالها إلى لغات عديدة بما فيها اليابانية والإسبانية والإيطالية والألمانية والتركية.
ترى المؤلفة، أن المال العام والإنفاق العام ضروريان لأجل الرفاهية الاقتصادية والاجتماعية، إلا أنها تؤكد أن المال هو من الموارد العامة التي يجب أن تكون تحت رقابة ديمقراطية، مع إدارة سياسية فاعلة تستند إلى طموحات الناس واحتياجاتهم.
وتقترح في نهاية عملها الوقوف في وجه المخططات الرأسمالية، ورفع الأصوات المحتجة، ليس في الشارع فقط، بل في الحكومات أيضاً، لأن من شأن النظام القائم على الربح وتراكم الديون، خلق أزمات وصراعات، يكون الإنسان ضحيتها الأول والأخير.
الكتاب صادر عن دار «بلوتوبرس» البريطانية في 215 صفحة من القطع المتوسط، 2016.
ويطرح كتاب «الدين أو الديمقراطية: المال العام في خدمة الاستدامة والعدالة الاجتماعية» للمؤلفة ماري ميلر الأساطير المتداولة عن المال الحديث، حيث تناقش أن الإحساس الاقتصادي السائد لدى الدول الكبرى مضلل، لأنه لا يشمل مفاهيم المال الاجتماعي والعام، كما ترى أن النظام النيوليبرالي المعرض للأزمات هو نتيجة مباشرة لخصخصة المال العام من قبل البنوك.
وتبدأ الكاتبة عملها بطرح أسئلة ربما تبدو اقتصادية لأول وهلة، لكنها ترتبط بجوهر النظام السياسي في بريطانيا وفي الدول الرأسمالية الكبرى، وهو ما تريد أن تعالجه في هذا العمل، باحثة عن العدالة الاجتماعية وتعزيز الاستدامة البيئية، والإدارة السياسية الصحيحة: «لماذا كانت المؤسسات المالية الخاصة تتلقى الدعم من المال العام، في حين أن المؤسسات العامة كانت تعاني نقصاً شديداً في التمويل؟ كيف يمكن تفسير أن ذراع دولة تعاني استنفاد المال، في حين يظهر أن الذراع الثانية لديها كميات غير محدودة من الأموال؟ لماذا كانت هناك أموال عامة للبنوك، وليس للناس؟ من أين يأتي المال؟ من سيدفع؟ من هي الإدارة السياسية الفعلية التي توافق على هذا التوزيع؟».
افتراضات ونقاشات
يستعرض الفصل الأول من الكتاب الافتراضات الأساسية وراء خصخصة المعروض النقدي، والهجوم على التمويل العام، وسياسة التقشف. وتقدّم الكاتبة في الفصل الثاني، الآراء السائدة حول اقتصاد «ليس هناك من بديل»، من خلال استكشاف المفاهيم ونماذج الطرق التي تكون فيها أنظمة تأمين الاحتياجات متساوية، وليست لأجل الربح، وتشير إلى أن نقطة البداية لديها هي منهج مستدام بشكل بيئي وعادل اجتماعياً من شأنه أن يشدّد على مبادئ الكفاية لدى الناس وتحقيق المساواة. أما الفصل الثالث فينظر بالتفصيل في مبدأ المال العام، وكيف أن السياسة الديمقراطية للمال يمكن أن تحقق الأهداف المعروضة في الفصل الذي يسبقه.
ويناقش الفصل الرابع أن «اقتصاد حقيبة اليد» واقتصاد «ليس هناك من بديل» مبنيان على الأساطير الأربعة: الأولى افتراض أن الحكومات الوطنية لا يمكن، أو لا يجب، أن تخلق المال. والثانية هي الاعتقاد الخاطئ بأن التجارة هي في أساس كل العلاقات الإنسانية، في حين أن الثالثة تتصوّر المال بأنه نشأ من خلال تبادل المعادن الثمينة مثل الذهب والفضة. الأسطورة الرابعة والأخيرة هي أن البنوك الخاصة تعمل بمثابة الوسيط بين المدّخرين والمقترضين. ويكون التضليل حول دور البنوك المركزية في العلاقة مع الخلق العام والخاص للمال وتدويره. ونلاحظ أن أغلب نقاشات الكتاب مرتبطة بالأسطورة الأولى. ويناقش الفصل الرابع الأساطير الثلاث الأخرى، في حين أن الفصل الخامس يركز على دور البنوك الخاصة.
وفي الوقت الذي نقرأ فيه النظريات الراديكالية والتحليلات عن المال والصيرفة في الفصول الأولى من هذا العمل العميق، إلا أن الكاتبة تستكشف العلاقة مع المفاهيم العامة للمال في الفصل السادس، وعلى الرغم من أن أغلب النقاش في الكتاب يعالج المال العام في سياق سلطة نقدية وحيدة أو اتحاد نقدي، تناقش الكاتبة في الفصل السابع المنطقة الصعبة من التحكم الديمقراطي بالترتيبات النقدية بين الأنظمة النقدية، أما الفصل الختامي، والذي يمكن اعتباره الأهم، فيستكشف كيف أن النقاشات والمقترحات في هذا الكتاب تساهم في نقد الرأسمالية وقضية التغيير الاجتماعي، والتي تدخل في صلب السياسة الدولية والاحتجاجات التي تحدث في العالم.
دمقرطة المال العام
تشير الكاتبة في عملها، إلى أن زمن الأزمات يعطي الفرصة من أجل التغيير، ويفضح في الوقت ذاته إخفاقات وتناقضات النظام المتأسس، حيث توجد هناك الفرصة لتحقيق زخم راديكالي، أو على الأقل لإضعاف الهيمنة السائدة»، وتضيف: «كان الضعف الأساسي للرأسمالية هو فشلها في فهم طبيعة المال الاجتماعية والعامة. وهذا قاد إلى خصخصة وسلعنة المال، والذي كان غير مستدام بشكل اقتصادي وإيكولوجي واجتماعي. وبالرغم من كل الأزمات، تتموضع عناصر الإمكانات الجديدة في رماد النظام القائم. وبالتالي إمكانية التغيير تتموضع في عودة المال ورؤيته مجدداً، أي خلقه بشكل يكون خالياً من الديون. واستصلاح القوة العامة والاجتماعية للمال يمكن أن يقدّم أسس تركيب مستدامٍ بيئياً وعادلٍ اجتماعياً لتأمين الاحتياجات.
وترى الكاتبة أن التناقض الأساسي في المال الرأسمالي هو أن خصخصة المعروض النقدي كان قائماً على الدين. وهذا بدوره يقدّم «الائتمان المرن» الذي تحتاجه الرأسمالية، لكنه مهدد بالانهيار بشكل مستمر، عندما يتوقف النظام عن أخذ المزيد من الديون. والتناقض الثاني هو جوع الموارد النقدية لأجل القطاع العام، والذي من شأنه أن يزيل المصدر الوحيد للمال الخالي من الديون الذي يمكن أن يدعم الطلب. والتناقض الثالث مرتبط بالثاني، إذ إن تجويع قطاع المال العام يضعف شرعية النظام السياسية، معلقة: «إن الاستياء من الخدمات العامة الضعيفة والثروة الخاصة الواضحة تولد السخرية وعدم الرضى. على العموم، يكون اليمين – أكثر من اليسار – ربما من المستفيدين لحالة المعارضة الشعبية، إذا لم يكن هناك من بديل راديكالي مقنع».
وتجد الباحثة أن الفشل في النظر إلى المال على أنه أداة اقتصادية نشطة، يزيل فرصة إعداد تحرك حول المال كوسيلة من وسائل تحقيق التغيير الاجتماعي. وتجد أنه إذا ما بدأت المؤسسات المالية الكبرى بإعادة التفكير بتدفق المال في اتجاه عام، يجب أن يكون هذا الأمر فرصة لأجل اليسار لجعل القضية في خدمة إعطاء الأولوية لتأمين الاحتياجات الاجتماعية والعامة من خلال دمقرطة المال العام.
طرق التغيير
تقدم الكاتبة في عملها هذا ثلاثة طرق للتغيير الراديكالي نلخصها بالتالي:
} أولاً، شق طريق إلى الديمقراطية الاقتصادية، والاستدامة والعدالة الاجتماعية من خلال دمقرطة المال، وتقديم بديل واضح لأصولية السوق القائمة على مبدأ «ليس هناك من بديل»، كما أنها تقدم إطاراً اقتصادياً بديلاً للاقتصاد الموجه أو المخطط كما النموذج السوفييتي، إذ إنه يجمع بين الديمقراطية والمرونة. وتعلق الكاتبة: «وعلى العموم، يجب أن تعطى الأولوية إلى الاقتصاد العام والاجتماعي (تأمين الاحتياجات الاجتماعية والعامة)، مع إبقاء السوق التجاري في دور ثانوي. إن دمقرطة المال لا تعني جلب قيم تجارية في مسألة تأمين الاحتياجات العامة، بل على العكس تماماً هو أن تقود القيم العامة المحددة على نحو ديمقراطي القطاع التجاري».
} ثانياً، يظهر الكتاب أن هذا الأمر ليس حلماً يوتيوبياً. فآلية التحكم العام موجودة سابقاً في صيغة المال العام. وهذا تم تعريفه بأنه كخلق العملة العامة من قبل السلطات النقدية العامة. وتشير الكاتبة إلى أنه «على العموم، فإن مناقشة المال العام، الخالي من الديون، هو حيوي لتشغيل نظام المال المخصخص الحالي. لقد خصخص قطاع الصيرفة التجارية تدفق العملة العامة، لكنه لا يستطيع أن يحتفظ بذلك التدفق من دون دعم عام».
} ثالثاً: تجربة أزمة 2007-2008 أظهرت اعتماد القطاع الخاص على القطاع العام. وتعلق على ذلك: «إن الوعي بهذا التناقض يمكن أن يخلق مساهمة كبرى في الاقتصاد والسياسة الراديكالية. وإن تحليل ونقد المال ليس انحرافاً عن النضال في وجه الرأسمالية، بل يكمن في جوهره. من دون آلية منظمة للمال على نحو اجتماعي وعلني، لا يمكن أن تحقق الرأسمالية أرباحها. بالتالي فإن التحكم بتدفق المال هو أمر حيوي للرأسمالية. وإن تحدي ذلك التحكم هو بذات الأهمية من تحدي ملكية القطاعات الأخرى من الإنتاج والتحكم بها. وفي الوقت الذي نجد فيه العديد من التحليلات النقدية المتزايدة للمال، والعديد من المدافعين عن الابتكار والإصلاح، إلا أنها لم تذهب إلى قلب الانتقادات الراديكالية للرأسمالية»، وتضيف: إن ضعف الوعي بسياسة المال قد زاد من قوة قبضة مبدأ «ليس هناك من بديل». في الواقع «ليس هناك من بديل» لأن الإيديولوجية النقدية المميتة، والتي تعرفها الكاتبة ب «اقتصادات حقيبة اليد»، قد قضت على إمكانية التغيير.
الإدارة السياسية
يؤطر هذا الكتاب الجدل الاقتصادي- السياسي – الاجتماعي من ناحية الاختيار بين سلعنة وخصخصة توريد العملة العامة كدين، والتحكم الديمقراطي بالمال العام، خالياً من الديون، كوسيلة من وسائل تأمين الاحتياجات للناس على نحو كافٍ.
وتذكر الكاتبة أن «دمقرطة المال لن تدمر من نفسها الأنماط الموجودة من الملكية والتحكم، بل ستكون فقط رابطاً واحداً في سلسلة التغيرات المطلوبة لخلق مجتمعات مستدامة بشكل إيكولوجي وعادل من الناحية الاجتماعية. وعلى العموم، إنه رابط أساسي، لأن المال العام سابقاً في أياد عامة، وتوضح ذلك للغاية في أعقاب الأزمة». وتؤكد أن المطلوب هو الإرادة السياسية الصلبة لإدراك القوة المحتملة من خلق المال العام. وفي الوقت ذاته، انتقاد «اقتصادات حقيبة اليد»، وتوريد المال المخصخص يجب أن يكون مؤطراً ضمن نقد واسع للرأسمالية. في الوقت الذي يمكن للتمويل الرأسمالي القائم على الائتمان أن يكون مقيداً عبر إعادة المعروض النقدي إلى التحكم العام، هذا لا يتحدى في ذاته رأسمال التمويل، أو الرأسمالية نفسها، على الرغم من أنها تبعد مصدراً أساسياً من وقودها».
وتشير أيضاً إلى أن الأزمة قدّمت دليلاً تجريبياً لمركزية المال العام وخلل التشغيل النقدي للرأسمالية، معلقة: «المفقود هو قوة سياسية تكون بمثابة قوة موازية للرأسمال. وهذه القوة يجب أن تضمن الأصوات العديدة في الكرة الأرضية، تلك الأصوات التي ترتفع في الاحتجاجات والاضطرابات الاجتماعية المنتشرة والغاضبة تجاه السياسات القائمة. إن هذه الأصوات في الشوارع، لكنها يجب أن تنتقل إلى الحكومات أيضاً. صحيح أن الفقر وتأثير التقشف من العوامل الأساسية فيما يحدث، لكن من هذه العوامل أيضاً الدَّين». وتذكر أن الاقتصاديات النيوليبرالية و«اقتصادات حقيبة اليد» هي التي فرضت هذا الأمر المرير على البشر الغاضبين والذي يرزحون تحت الديون، وهؤلاء الذي يقومون بحملة لأجل تحقيق الكفاية في تأمين الاحتياجات يكملهم هؤلاء الذي يبحثون عن طريق خارج الإرهاق والعمل بالسخرة لوفاء الديون. هذا هو الخيار بين الدين والديمقراطية. إنه الخيار بين نظام مالي مخصخص قائم على الديون، والذي يكون في النهاية العامة مسؤولون عنه، ونظام مالي خالٍ من الديون تحت السيطرة بطريقة ديمقراطية، يكون كإطار لأجل تأمين الاحتياجات الكافية المستدامة بيئياً وعادلة اجتماعياً.