مقالات عامة

الذاكرة الشّرية

د. حسن مدن

ثمة أمر نريد أن نطلق عليه: «الذاكرة الشَّرّية»، اشتقاقاً من مفردة الشر، ويتعين التفريق، بداية، بين هذا النوع من الذاكرة الشَّرية كما سنصفها، عن صنف آخر من الذاكرة، تفادياً للّبس، بالنظر إلى التقارب لفظاً بينهما. فهناك الذاكرة الشريرة، أو ذاكرة الشر، والمقصود بها ما تحفل به الذاكرة الجمعية من وقائع عن أعمال شريرة، أو فظائع، ارتكبت عبر التاريخ، تظهر كمية الشر المتأصل في نفوس من ارتكبوها.
وفي هذه تندرج ما دعاها الفيلسوف تزفيتان تودوروف «غواية الخير»، أي ارتكاب الجرائم، كالتصفيات والإبادات ومصادرة الحريات، ضد البشر بحجة تحقيق غايات نبيلة وهذا النوع من الذاكرة، وياللمفارقة، يتعين أن نصفه بالذاكرة الحميدة.
من أجل ألا تتكرر الفظائع والمجازر والحروب المدمرة، وما إليها من ممارسات تحمل صفة التوحش، يتعين على الأمم ألا تنساها، أي أن تظل، بثقلها ومقادير الرهبة التي تثيرها في النفوس حاضرة، كي يتفادى البشر الانزلاق إلى مثيلاتها مرة أخرى. إنها ذاكرة ضرورية للعبرة والدرس، وربما من أجل ذلك تقام المتاحف التي تحكي تلك الفظائع، لتتعرف إليها الأجيال، مخافة أن تجد نفسها ضحية لما يشبهها.
أما «الذاكرة الشّرية» فهي سمة موجودة لدى طراز من البشر، وليس كلهم، وتتصل غالباً بالحيز الخاص، الفردي، لا بالفضاء العمومي كما هو حال ذاكرة الشر، وتتمثل في عجزهم عن تجاوز ما يحسبون أنه إساءات لحقت بهم، لا بل ورفدها بشحنات إضافية من الغضب والحنق على مَن يعتقدون أنه أساء لهم، ونحن نعلم من التجربة أن تقييم الخلافات بين الأفراد أمر شديد النسبية، فلكل فرد رؤيته لأمر هذا الخلاف، وفي الكثير من الحالات، إن لم يكن في أغلبها، فإن المسؤولية مشتركة عن وقوع تلك الأخطاء واستفحال أمرها.
ينجم، ضمن ما ينجم، عن هذا النوع من الذاكرة أمران مرتبطان ببعضهما، أحدهما هو شعور المصاب بها بأنه ضحية، ويتملكه إحساس، لا يستطيع أن يفارقه، بالشفقة على نفسه، لاعتقاده أنه ظُلم، أما الأمر الثاني، والناتج عن الأول، فهو الرغبة التي تظل مستعرة بالانتقام ممن يراه سبباً في أذاه، وبالتالي افتقاده للرغبة، أو الاستعداد، للغفران والصفح، وتجاوز الصفحات السلبية في دفتر الحياة.
من أجل استقامة أمور الحياة، و«أنسنة» تفاصيلها، ما أمكننا ذلك، نحتاج إلى أن نتدرب على التحرر من «الذاكرة الشّرية» التي تختزن الحنق والغضب، اللذين يمكن أن يتحولا إلى كراهية مقيتة، وأن ننمي في النفوس، مقابل ذلك، الميل نحو الغفران والصفح، وليس ضرورياً أن يأتي ذلك على شكل اعتراف أمام الآخر، بالقول له: لقد صفحنا عنك، وإنما بأمر آخر، أكثر عمقاً، بأن نُدرب أنفسنا على نسيان ما تنطوي عليه الحياة من صغائر، وتجاوزها، وسنجد أنفسنا، إذا تحررنا منها، أكثر نبلاً وشعوراً بالرضا.

madanbahrain@gmail.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى