الرد على خوارج العصر
القاهرة «الخليج»:
لم تعد الإدانة تكفي لمواجهة جماعات التطرف والتكفير التي ابتلي بها العالم الإسلامي في السنوات الأخيرة، فمواجهة هذه الجماعات الضالة تتطلب حصارا فكريا يكشف أباطيلها ويعريها أمام جماهير المسلمين في كل مكان.
وأحدث هذه المواجهات الفكرية تمثلت في موسوعة علمية تبناها العالم الأزهري د. علي جمعة عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر ومفتي مصر السابق، حيث كلف مجموعة من الباحثين المتخصصين في العقيدة والشريعة الإسلامية والسنة النبوية والفقه الحضاري بحصر أكاذيب التكفيريين والرد عليهم بما يدحض أباطيلهم.
وقد أكد د. جمعة في مقدمة الجزء الأول من الموسوعة العلمية، الذي يرد على الفكر المتشدد في أمور العقيدة، أن هذه الجماعات الضالة التي ابتلي بها عالمنا الإسلامي وزاد خطرها في السنوات الأخيرة تحتاج إلى مواجهة فكرية جادة، إذ لم يعد الحل الأمني كافيا لحماية مجتمعاتنا العربية والإسلامية من مخاطرها.
التحليل الموضوعي لفكر خوارج العصر يؤكد أنهم لا يفهمون التوجيهات والوصايا النبوية فهماً صحيحاً ولا يستندون في أحاديثهم إلى الثابت الصحيح من أقوال وأفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك فهم نموذج فريد في الغلو والتعامل الخاطئ مع السنة النبوية التي يطوعونها دائما، لكي توافق فكرهم المتشدد الذي يكشف عن خلل فكري ومنهجي في التعامل مع مصادر المعرفة الإسلامية.
هذا ما أكده د. رشوان أبو زيد محمود، الأستاذ بقسم الحديث وعلومه بكلية أصول الدين بجامعة الأزهر، من خلال الجزء الثاني من موسوعة: «الرد على خوارج العصر»، الذي رصد من خلاله ملامح غلو هؤلاء الخوارج في التعامل مع السنة النبوية.
يقول: د. رشوان في تقديمه لكتابه: علوم الحديث أحد أهم علوم الآلة التي يحتاج إليها الدارس للشريعة الإسلامية، وهي علم من مجموعة علوم لا بد من انتظامها في الذهن وإتقانها، ليتحقق للباحث أهلية الدخول للشريعة عن دراية، وهذه العلوم التي تسمى بعلوم «الآلة» تشمل علوم التوثيق وعلوم الفهم، وعلوم التوثيق هي علوم الحديث، وعلوم الفهم هي اللغة نحوا وصرفا وبلاغة، وأصول الفقه والمنطق، وهذه العلوم يرتبط بعضها ببعض ارتباطا وثيقا لا يستغني باحث في العلوم الإسلامية عن أي منها، وإذا اكتفى الباحث ببعضها وتجاهل البعض الآخر ثبت عواره وكثر خطؤه وهذا كان ولا يزال حال هؤلاء الخوارج الذين تعاملوا مع العلوم الإسلامية برؤى ضيقة وعقول منغلقة وفكر مشوه وعلم ناقص.
ويرجع د. أبو زيد شيوع ظاهرة التشدد الديني والغلو في الدين فهما وتطبيقا إلى ما يسميه «خلل المنهج التعليمي»، الذي يصوغ عقلية المتلقي لعلوم الشريعة، ويقول: للأسف مناهجنا التعليمية في العالم العربي تارة تبتعد عن الدين، فينتج عن ذلك علمنة تحتقر الدين وتوجهاته، وتارة تقترب من النصوص من غير منهجية ولا مراعاة لقواعد التوثيق والفهم فتنتج فهما ظاهريا سطحيا بعيدا كل البعد عن حقيقة مراد الشرع ومقصوده، ومن ثم كان التعليم الديني في الأزهر – قلب الإسلام النابض – يعتمد على تدريس علوم الآلة وتعميقها لدى الطالب من المراحل الأولى للتعليم، وهو ما يفتقده هؤلاء المتشددون الذين لم يتأهلوا جيدا للتعامل مع العلوم والمعارف الإسلامية.
ملامح التشدد في السنة
ويرصد المؤلف أبرز مظاهر الخلل في التعامل مع السنة النبوية، التي غزت فكر خوارج العصر، وأولها عدم التفرقة بين الظني والقطعي من الروايات والاحتجاج بالظني في المسائل القطعيات، وهذا يؤدي حتما إلى إدخال ما ليس من العقيدة فيها، وإلزام الناس بما ليس بلازم، بل يصح فيه الخلاف، ما يؤدي إلى انتشار ظاهرة التكفير التي أحد روافدها توسيع قاعدة المسائل العقدية وإدخال الكثير من المسائل الفقهية فيها، وذلك إما بسبب خلل في الفهم، أو بسبب خلل في الدليل، وخلل الفهم محل تقويمه علم أصول الفقه وخلل الدليل من معالمه الاستدلال بالظن من الأدلة في المسائل القطعية، لذلك كانت هذه المسألة من المعالم البارزة للغلو.
وهنا يؤكد المؤلف أن هؤلاء المتشددين يسيرون في الطريق الخاطئ في هذه المسألة، فقد استقر علماء الأمة قديما وحديثا على عدم صحة الاحتجاج بالظن من الروايات في القطعيات.. والصحيح هو الاستدلال بالأحاديث قطعية الثبوت والدلالة، وكذا الاستدلال بالأحاديث ظنية الثبوت فيما دل عليه دليل قطعي آخر من أصول الاعتقاد.
يقول د. رشوان أبو زيد: التساهل في هذه المسألة يفتح بابا واسعا في التكفير، حيث توسعت عند هؤلاء الخوارج دائرة العقيدة ما يجعلهم يسارعون بتكفير المخالف فيما لا يكفر فيه.
ومن مزالق هؤلاء المتشددين أيضا في التعامل مع السنة النبوية، والتي يرصدها المؤلف «التردد في قبول الحسن من الروايات وهم بذلك يخالفون ما استقر عليه رأي علماء الحديث قديما وحديثا».. وهذا التناقض في المنهج – كما يقول د. رشوان – من أعجب سلوكيات التكفيريين، وهو دليل على أن الميزان في أيديهم منتكس أعوج، ففي أصول الاعتقاد يتساهلون ويحتجون بالظن، فينتج عن هذا التساهل اتساع دائرة المسائل التي يكون عليها التكفير والولاء والبراء، مما يوجد شدة ظاهرة مع المخالف، وفي المقابل لا يقبل المتشدد الحسن لغيره في بعض الأحيان، ولا الضعيف دائما في الفقهيات مما يضيق عليه دائرة التعامل مع النصوص، ويجعله يرمي من يعمل بهذه الروايات بالفسق والابتداع، فهو يتساهل في الاستدلال على أبواب العقيدة ويتشدد في الاستدلال على أبواب الفقه، والواقع أن الخطأ في الأول كارثة، وكان الأولى عقلا ونقلا السير على ما سار عليه السلف والخلف من العلماء الثقات من التشدد في الاستدلال في أبواب الاعتقاد أكثر منه في أبواب الفقه وقبول الحسن من الأحاديث في الاحتجاج الفقهي والعمل بالضعيف في فضائل الأعمال، كما استقر رأي العلماء.
ضجيج التكفيريين
ويؤكد المؤلف أن السنة النبوية من أكثر علوم الإسلام التي حظيت بضجيج التكفيريين أو خوارج العصر.. ويقول: من أهم محاور الغلو في التعامل مع السنة النبوية الظن بأن منهج التعامل مع السنة تصحيحا وتضعيفا واحد، ورفض المناهج الأخرى التي تخالفه في قواعد التعامل مع السنة النبوية، والتي ينتج عنها الاختلاف في اعتبار هذا الحكم أو ذاك هو السنة، فإذا ما ناقش باحث وسطي معتدل متشددا أو تكفيريا في حكم استنبطه من حديث وفقا لقواعد الباحث المعتدل في التصحيح والتضعيف قام وقعد وأرغى وجادل وملأ الدنيا صياحا وضجيجا واتهم من يخالفه بأنه ينكر السنة أو على الأقل يخالفها، والحقيقة أن هذا المخالف للمتشدد هو الذي يفهم أساليب التعامل العلمية المعتبرة في التعامل مع سنة رسول الله.. وما أكثر التهم العشوائية التي يوجهها المتشددون الجهلاء بالسنة لمن يخالفونهم في هذا المجال، وهي تهم تكشف عن جهلهم وغبائهم وضيق صدورهم وقلة علمهم وسوء فهمهم.
ويشدد المؤلف هنا على أن آفة المتشددين أنهم لا يعرفون قيمة الاختلاف، ولذلك يسارعون بتكفير من يخالفهم في الرأي والفهم والاستدلال ويقول: لا يدرك هؤلاء بسبب عقولهم المغلقة أن الاختلاف في التفصيل اختلاف رحمة لا نقمة، فالمتشدد لا يرى صحة لمنهج غير منهجه، ولذلك فهو يحكم على مناهج الأئمة ممن خالفهم بالتخطئة تارة، والطعن تارة أخرى، وقد يصل الأمر إلى حد الرمي بالبدعة لمجرد الاختلاف في تقرير القواعد.. ولا يدرك هؤلاء قيمة قول الإمام الشافعي – رحمه الله – (رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب)، فالعالم والفقيه الكبير لم يجزم بصواب رأيه وخطأ مخالفه، بل قرر أن الأمر مبناه على غلبة الظن.. ورحم الله العالم المدقق (الخطابي) حينما قرر أن اختلاف الأئمة رحمة، وهؤلاء لا يرون لغيرهم حقا في التفكير والاختلاف، وقد اختلف أئمة الحديث في مناهج التصحيح والتضعيف، وفي شروط القبول والرد، فضلا عن اختلاف أهل الرأي في ذلك ولكنهم كانوا يلتزمون بقواعد القبول والرد.
خلل علمي
ويشير المؤلف إلى مظهر آخر من مظاهر الخلل العلمي والفكري عند أهل التشدد والتكفير، وهو ظن أكثرهم أنه بمجرد الصحة الاستنادية للحديث يكون الحديث حجة ويجب العمل به، وهذا غير صحيح.. ويقول: المقرر في علوم الحديث أنه إما محكم وهو الحديث الذي سلم من معارضة غيره له من الأدلة الشرعية، وإما مختلف أو مشكل وهو الحديث الذي عارضه غيره من الأدلة، ولذلك يجب على «كل من شم رائحة العلم»، أنه يحترم سائر الأدلة الواردة في هذا الباب، والنظر فيما إذا كانت متفقة على تقرير المعنى الذي يقرره الحديث أو تخالفه، وإذا كانت تخالفه فهناك وسائل للجمع ووسائل للترجيح، وهي أمور دقيقة عميقة لا يقوم بها إلا جهابذة العلماء، ولذلك كان لا بد من بيان طريقة اجتهاد المجتهد في استنباط الحكم الشرعي من الروايات والمراحل التي تحدث في ذهنه قبل أن يخرج لنا العلم المستنبط من هذا النص أو ذاك.
حقيقة مهمة
وبعد استعراض آراء واجتهادات كل العلماء حول الاستشهاد بالحديث النبوي والمقومات العلمية والتوثيقية التي تجعل المسلم مطمئنا للاعتماد على حديث دون آخر ومظاهر انحراف خوارج العصر في التعامل مع السنة النبوية، وتوظيف أقوال الرسول وأفعاله لتحقيق مآربهم التكفيرية.. يطلق المؤلف صيحة تحذير من التعامل مع الحديث النبوي دون علم كامل بكيفية التعامل السليم مع السنة النبوية قولية كانت أم فعلية.
ويقرر د. رشوان أبو زيد حقيقة مهمة في كتابه الموسوعي ينبغي أن يدركها كل من يتحدث في العلوم الإسلامية، وهي أن علوم الحديث والفقه والأصول واللغة وحدة واحدة لا يستغني بعضها عن بعض، وهي مثل شجرة كبيرة وعظيمة متناسقة ومتشابكة الأغصان، وهذا ما يغيب عن عقول المتشددين الذين لا يجمعون بين هذه المعارف، ويضيف: ينبغي أن يدرك الجميع أن استنباط الحكم من الروايات الحديثية ليس بالأمر الهين، بل هو أمر غاية في الدقة والخطورة والعمق، لا يكاد يقوم به الجهابذة العلماء، وهو أمر لا يكفي فيه العلم بالحديث وحده، بل لا بد من العلم بالأصول واللغة والمنطق مع علوم الحديث ليتسنى للباحث أن يصل إلى حكم صحيح.
تسرع مرفوض
من هنا يحذر أستاذ الحديث بالجامعة الأزهرية من التسرع في استنباط الأحكام اكتفاء بصحة الإسناد واكتفاء بالفهم السطحي للنصوص.. ويقول: لا أجرؤ حتى على وصف ذلك بالفهم الظاهري، إذ الظاهرية أصحاب أصول في الحكم على الأسانيد، وفي فهم المتون، وإن خالفوا بهذه القواعد جماهير علماء المسلمين، لكن يبقى لهم اتباعهم لمنهج واضح المعالم مترابط الأجزاء.
يقول المؤلف: لقد أصبحت أحاديث النبي – صلى الله عليه وسلم – بين انتحال مبطل كمنكري السنة وغلاة العلمانيين ومن دار في فلكهم وتأويل جاهل وإن ارتدى لباس الدين وظهر بين الناس بمظهره ككثير من أنصاف المتعلمين ممن يتصدرون للكلام في السنة والفقه وتحريف الغالين ممن لا يرى الحق إلا فيما يقول هو، فالحق يدور معه حينما دار، لا أنه هو يدور مع الحق حيثما دار.. وإلى جانب هؤلاء هناك من يستندون إلى أحاديث ويفهمونها على غير مقصد رسول الإنسانية صلوات الله وسلامه عليه، ويعتبرونها أدلة على تفسيق الناس وتبديعهم بأسباب لم يجعلها الأئمة والعلماء الثقات من أسباب التفسيق والتبديع، أو جعلوها كذلك بشروط معينة وفي ظروف وحالات خاصة فترك هؤلاء شروطها وأحوالها وجعلوها مطلقة عامة.
تصحيح واجب
ويصحح المؤلف فهم قول العلماء: «إذا صح الحديث فهو مذهبي»، فيقول: الفهم الصحيح لهذه العبارة لا يتضح إلا بعد فهم هذه المراحل الخمس والقواعد المتعلقة بكل مرحلة وكيفية تطبيقها، فالأئمة يقصدون بذلك أن الحديث الذي صح إسناده واستقام على قواعد الشرع معناه، ولم يوجد له معارض أقوى منه، وكان محققا لمقاصد الشريعة في محل تطبيقه.. هو الصحيح عندي وهو مذهبي، واختزال هذا المعنى في مجرد صحة الإسناد خروج على منهج جماهير العلماء وتحريف للدين.. بل هو هدم له.
وهنا يوضح المؤلف أنه إذا كان أئمة الحديث قد اقتصروا في كثير من مصنفاتهم على القواعد المتعلقة بالتوثيق فليس ذلك استغناء عن منهج الفهم والتطبيق، بل اعتمادا على أن منهج الفهم والتطبيق محله علم آخر هو علم أصول الفقه، فعلوم الحديث للتوثيق وأصول الفقه للفهم والتطبيق.
لذلك ينتهي المؤلف إلى التحذير من الفصل بين هذين العلمين – علم الحديث وعلم الفقه – في مناهج الدراسة والبحث العلمي ويرى أن هذا الفصل أوجد كارثة حقيقية، بل أوجد صراعا ظهر في بعض العصور بين بعض من ينتمون للفقه وبعض من ينتمون للحديث، إذ كل منهم يحاول أن يجعل من نفسه المرجعية الوحيدة التي ليس بعدها مرجعية، وظهر حديثا بمظهر أسوأ كثيرا إذ أصبح أكثر المشتغلين بالحديث لا يقتربون أصلا من أصول الفقه، رغم أنهم يقررون الأحكام ويستنبطون ويكتبون الكتب الطوال، مرجحين هذا القول أو ذاك دون اعتماد على قاعدة أصولية، بل الأمر على ما يبدو لهم لأول وهلة، فإذا جاء من يحاول إرجاعهم للقواعد لجّوا في طغيانهم يعمهون، وأصبح أكثر المشتغلين بالفقه لا يقتربون من علوم الحديث ولا يعرفون كيف يصححون أو يضعفون الروايات وينقلون النقول في التصحيح والتضعيف بغير ضبط ولا فهم.
صياغة جديدة
لكل ما سبق يرى المؤلف ضرورة صياغة مناهجنا الدراسية لتجعل هذين العلمين اللذين هما علوم الحديث وأصول الفقه مقررا دراسيا على كل مشتغل بالعلم الشرعي، ذلك أنهما بمثابة القلب للعلوم الإسلامية، ولأن مسألة تغيير المقررات الدراسية والمناهج العلمية تحتاج إلى وقت قد يطول وقد يقصر، فإن المؤلف يناشد الباحثين في كل التخصصات الشرعية أن يتقوا الله فيما يكتبون.
وختاماً: يؤكد المؤلف أن المتشددين يجهلون أساليب التعامل الصحيح مع السنة النبوية وكثير منهم أساء إساءة بالغة لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك ينبغي أن يتصدى لهم العلماء وكشف ما هم عليه من باطل تبصيرا للمسلمين بالتوجيهات والوصايا النبوية الصحيحة ومنعا للتحريف والتزوير وتحميل كلام خير الأنام أكثر مما يحتمل.