الرد على خوارج العصر (4/5)
القاهرة «الخليج»:
لم تعد الإدانة تكفي لمواجهة جماعات التطرف والتكفير التي ابتلي بها العالم الإسلامي في السنوات الأخيرة، فمواجهة هذه الجماعات الضالة تتطلب حصارا فكريا يكشف أباطيلها ويعريها أمام جماهير المسلمين في كل مكان.
وأحدث هذه المواجهات الفكرية تمثلت في موسوعة علمية تبناها العالم الأزهري د. علي جمعة عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر ومفتي مصر السابق، حيث كلف مجموعة من الباحثين المتخصصين في العقيدة والشريعة الإسلامية والسنة النبوية والفقه الحضاري بحصر أكاذيب التكفيريين والرد عليهم بما يدحض أباطيلهم.
وقد أكد د. جمعة في مقدمة الجزء الأول من الموسوعة العلمية، الذي يرد على الفكر المتشدد في أمور العقيدة، أن هذه الجماعات الضالة التي ابتلي بها عالمنا الإسلامي وزاد خطرها في السنوات الأخيرة تحتاج إلى مواجهة فكرية جادة، إذ لم يعد الحل الأمني كافيا لحماية مجتمعاتنا العربية والإسلامية من مخاطرها.
يواصل علماء الفتوى الرد على أكاذيب ومزاعم المتشددين والتكفيريين من خوارج العصر، حيث يستعرض الباحث الإسلامي الشيخ أحمد ممدوح، أمين الفتوى بدار الإفتاء المصرية، جوانب جديدة من أباطيل خوارج العصر من خلال الجزء الرابع من موسوعة «الرد على خوارج العصر»، التي صدرت مؤخراً وأشرف عليها العالم الأزهري د. علي جمعة، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر، ومفتي مصر الأسبق.
بداية يؤكد المؤلف أن ما نعانيه في عالمنا العربي من فكر ديني متشدد يرجع إلى الخلل الواقع في إدراك حقائق العديد من المسائل الدينية في الأصول والفروع، وكذلك في كليات العلوم المختلفة وجزئياتها، وهذا الخلل حصل عند بعض المنسوبين للعلم، وعند الطوائف المتشددة في المئة سنة الأخيرة على وجه الخصوص، حيث اختلطت المفاهيم في أذهانهم وضاعت حقائق التدين الصحيح من عقولهم، ونشأت عن ذلك أخطاء جسيمة في التطبيق، وفي الحكم على أفعال الناس فكان التكفير وممارسة العنف ضد العامة، بل وصل الأمر أحياناً إلى استباحة الدماء والأموال والأعراض؛ بشبهات واهية، وحجج فاسدة، ومن السهل أن يظهر فسادها وخواؤها، إذا حوكمت إلى قواعد العلم ووضعت على ميزان النقد.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد المؤسف، بل تعداه إلى الترويج لهذه الأكاذيب والأباطيل، والزعم بأنها الحق والصواب، وغيرها هو الباطل والخطأ والضلال، وأخذ أولئك المروجون في الإلحاح الشديد على مفاهيمهم تلك على مدار عقود؛ بالمحاضرات، والدروس، والكتيبات، والمطبوعات المختلفة، مع تمويل موجه ودعم كبير لهذا التوجه بشكل عام.
مفاهيم خاطئة
لقد ثبت بالأدلة والبراهين القاطعة بأن هؤلاء يفهمون الشرع فهماً خاطئاً بعيداً عما كان مستقراً عند أئمة الدين، وأصبحت أقوالهم الباطلة في نظرهم هي الدين، وهي الشرع، وهي الحق، وهي أحكام الله، وصارت من قبيل الخصائص والشعارات التي بلغت عندهم درجة اليقين؛ فيصنفون الناس وفقاً لقناعاتهم الخاطئة، ويحصل عندهم الولاء والبراء بناء عليها، وصار من يقول بضدها إما كافراً، أو فاسقاً، أو ضالاً، أو رقيق الديانة، أو جاهلاً، أو مخالفاً للدليل، أو خرافياً، أو عالم سلطان، إلى آخر قاموس الألقاب والأوصاف التي يستعملها أولئك بغرض الاغتيال المعنوي لمخالفيهم وخصومهم، وحتى يكتمل الحصار العقلي والإرهاب النفسي للذيول والأتباع، فلا يجسرون على إعادة النظر والتأمل، فضلاً عن الاعتراض والمخالفة.
وحتى علماء الشريعة الثقات الذين حفظ الله تعالى بهم الشريعة المحمدية الخاتمة، جعلهم أولئك الخوارج في مرمى سهامهم، وصاروا يحاكمونهم في عقائدهم، وفي اختياراتهم وفي أفعالهم، ويحكمون عليهم بالانحراف الفكري أو الوقوع في البدع أو الضلال؛ بناء على معايير ضيقة مخترعة اعتمد عليها هؤلاء في مطاردة المخالفين لهم، وكأنهم هم الأمناء على الشريعة من دون سواهم.
تلاميذ للشذوذ الفكري
وبتطبيق ما يردده خوارج العصر على نصوص القرآن الكريم والسنة الصحيحة، اتضح أن معظم ما يقولونه خلاف المعلوم من الدين بالضرورة، أو من البدع السيئة والمحدثات المردودة، أو هو على خلاف الإجماع وما عليه العمل عند أهل العلم، أو بأنه من الأقوال الشاذة المهجورة.. وبتحليل مجموع ما يردده هؤلاء اتضح أنه لا يقول به إلّا أفراد من أهل الشذوذ في التاريخ الإسلامي؛ ومنهم من عوقب بسبب أقواله، أو سجن بحكم الشرع، أو كان ممن شنع عليه وهجرت كتبه وأقواله بسبب تخليطه وشذوذه، أو كان ممن تكلم في غير تخصصه فأتى بالعجائب، أو كان ممن لم يتلق العلم عن العلماء الثقات، وبرد كثير مما ردده هؤلاء إلى علمي أصول الفقه والقواعد الفقهية وجدنا كثيراً من الخلط والانحرافات والأغلاط في فهم القواعد الفقهية، وأبرز مساوئ المتشددين في هذا الجانب تتمثل في:
** تنزيل الظني منزلة القطعي: ورداً عليهم وكشفاً لجهلهم فصلنا الكلام فيها بإسهاب فأوضحنا مفهوم القطع، ومفهوم الظن، ثم تكلمنا عن أسباب العلم القطعي، وأنها ثلاثة: الحواس السليمة، والعقل، والخبر الصادق.. ثم تكلمنا عن القطع والظن في مجال النصوص الشرعية.. ثم تعرضنا لبيان مفهوم المعلوم من الدين بالضرورة، وضوابطه وحكم تكفير منكره، وعقدنا مبحثاً مهماً لبيان ما يجوز فيه الاستناد إلى الظن وعكسه، وتعرضنا فيه إلى قضية الاستدلال بحديث الآحاد في أمهات العقائد، وأنه لا يجوز على وجه التأسيس والإنشاء؛ لأنه لا يفيد إلّا الظن.
وبعد هذا العرض السابق لخصنا الفروق بين القطعي والظني في أن القطعي يفيد العلم اليقيني، وأنه يتضمن مساحة المعلوم من الدين بالضرورة، وأنه يشكل هوية الإسلام، وأنه لا يجوز فيه الاجتهاد، وأنه لا يعذر المجتهد المخطئ فيه، وأنه لا يجوز فيه الخلاف، وأنه يجب الإنكار على المخالف فيه، وأنه قد يكفر منكره، وأن التعامل مع الظني كما يتعامل مع القطعي يحدث خللاً في إدراك الأحكام، وخللاً في تنزيلها على الواقع، وخللاً في سلم الأولويات، وخللاً في فهم الأدلة الشرعية والتعامل معها، وخللاً في علاقة المسلم بربه وبدينه، وفي علاقة المسلم بالمسلم، وفي علاقة المسلم بغير المسلم، وفي علاقة المسلم بالكون من حوله، فالخلط بين القطعي والظني من مظاهر الإدراك المختل والتفكير المعوج، وهو من أعظم البلايا التي ابتلانا بها بعض مدعي العلم في هذه الأيام؛ فحكموا بالظن في محال القطع، وألحقوا بالمقطوع ما ليس منه، وأدخلوا فيما علم من الدين بالضرورة ما ليس كذلك، وقدموا الأضعف على الأقوى في الاستدلال، وجعلوا المتغير ثابتاً والثابت متغيراً، وأنكروا على المخالف في الظنيات، وحكموا عليه بالفسق، بل والكفر في بعض الأحيان؛ فأريقت الدماء، واستحلت الأعراض، وانتهبت الأموال، وقطعت الأرحام، وأفسدت ذات البين، وأسيء الظن بالخلق، وحصل الولاء والبراء، وشوهت صورة الإسلام والمسلمين في العالمين، كل هذا بناء على ذلك الخلط الأخرق، والفهم السقيم.
وهذا الخلط سمة من أبرز سمات المتشددين والمتطرفين والفرق المبتدعة قديماً وحديثاً، وعلامة من أهم علامات تفكيرهم المغلوط ومنهجهم العقيم المرفوض.
نماذج للفهم المغلوط
ثم ذكرنا بعض النماذج للفهم المغلوط في تنزيل الظني منزلة القطعي منها مسألة (تغطية وجه المرأة)، وهي من المسائل الظنية التي وقع فيها الخلاف بين العلماء قديماً وحديثاً، ولم يكن ذلك الخلاف حاصلاً إلّا لعدم وجود أدلة قطعية فيها، إلّا أن بعض الناس أبى أن ينزل هذه المسألة منزلتها، وأن يتعامل معها التعامل المناسب مع أشباهها من مسائل الفروع الاجتهادية الظنية التي تحتمل اختلاف الأنظار وتباين الآراء؛ فتعامل معها بنظرة أحادية كما يتعامل مع المسائل القطعية، وحكم على المخالف فيها بالأوصاف المستبشعة، ووصف نساء المسلمين العاملات بخلاف رأيه بما لا يحل وصفهن به.
فبعض أولئك ينكر وجود خلاف في المسألة أصلاً، ويدعي الإجماع وجوب ستر وجه المرأة، وبعضهم يدعي إجماعاً مخصوصاً بالمذاهب الأربعة!
وهذا التعامل يعبث بأولويات الأمة، ويشوه عقول الناشئة والعامة، ويدلس على طلاب العلم، ويقر بالبطلان على مقصود الشرع.
أقوال باطلة
ثم أوضحنا حقيقة الإجماع وحكمه وتعرضنا لشبه القائلين بعدم حجية الإجماع من الفرق القديمة، وبعض المحاولات البائسة في العصور الأخيرة لإحياء أقوال فرق الضلال في نفي حجية الإجماع، وأوضحنا أهمية الإجماع ووظيفته، وأن تلك الأهمية تأتي من أنه أداة مهمة لقطع مادة التحريف في الأحكام الشرعية والقول على الله تعالى بغير علم؛ لأنه به يستحيل الظني قطعياً، ويمتنع النزاع، وتحفظ الثوابت وهوية الدين، كما أنه يمنع الاجتهاد الجديد في مجال لا نحتاج فيه إلى الاجتهاد.
ثم تعرضنا لمسألة جديدة، وهي مفهوم البدعة وذكرنا فيها معنى البدعة شرعاً: وأنها: فعل ما لم يعهد في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأنه ما ورد من قوله صلى الله عليه وسلم: «كل بدعة ضلالة». ظاهره غير مراد، وهو مخصوص بقوله صلى الله عليه وسلم: «من سن في الإسلام سنة حسنة، فعمل بها بعده، كتب له مثل أجر من عمل بها، ولا ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة، فعمل بها بعده، كتب عليه مثل وزر من عمل بها، ولا ينقص من أوزارهم شيء».
فالسنة الحسنة هي التي توافق أصول الشرع، ويشهد لمشروعيتها، وأما السيئة فهي التي تخالف قواعد الشرع وأصوله. وتقسيم البدعة إلى حسنة وسيئة هو الذي قرره واعتمده جماهير العلماء سلفاً وخلفاً، ونصوصهم في هذا أكثر من أن تحصى.
الإنكار في مسائل الخلاف
ثم جاء الكلام على مسألة الإنكار في مسائل الخلاف، وبينا فيها أن الخلاف أمر كوني، وأن الخلاف الذي يراد الكلام عنه هنا ليس هو مطلق الخلاف، وهو الخلاف في المسائل الاجتهادية؛ وأن هذا في حق من له حق الاجتهاد المستجمع لآلاته المتأهل له؛ وأن العلماء قعدوا قاعدة في ذلك وهي: «لا ينكر المختلف فيه»؛ لأنه لما كان الحكم الثابت مع وجود الخلاف ظنياً، لم يكن اعتبار أحد الأمرين المختلف فيهما أولى من الآخر.
ومما يدل أيضاً على تلك القاعدة من السنة: ما رواه ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال لأصحابه لما رجع من الأحزاب «لا يصلين أحد العصر إلّا في بني قريظة»، فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها، وقال بعضهم: بل نصلي، لم يرد منا ذلك، فذكر للنبي، صلى الله عليه وسلم، فلم يعنف واحداً منهم.
ثم بينا مسلك السلف في معاملة بعضهم البعض في الأمور الخلافية، ومن ذلك قول سفيان الثوري: «إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي قد اختلف فيه، وأنت ترى غيره، فلا تنهه».
وأن بعض العلماء عد العمل بهذه القاعدة واعتبارها معياراً لعقل الإنسان ورجاحته، ووصف البعض الآخر من يركب الإنكار على الناس في المسائل الخلافية بأنه بهذا يعمل بعمل الجهال من العوام، وأنه يعد متسلطاً على الخلق ظلماً وعدواناً.
ثم ذكرنا أمثلة ما وسع الله فيه على الأمة من أمور الخلاف، وضيق المتشددون فيه على أنفسهم وعلى الخلق: منها حكم إعفاء اللحية للرجال، وأوضحنا أن القول باستحباب الإعفاء وكراهة الحلق هو الأقوى دليلاً؛ حيث جمع بين الأدلة المختلفة بوجه مرضي سليم، وأن التشدد في هذه المسألة أمر مذموم.
مسألة الحلف بغير الله
ثم ناقشنا مسألة الحلف بغير الله وقول المتشددين إن ذلك «شرك أصغر»، وأوضحنا أن الشرك من أكبر الكبائر لكن لا ينبغي أن ندخل في ذلك ما يجري على ألسنة عموم الناس من الترجي بالنبي، صلى الله عليه وسلم، وما لم يقصد به أصل اليمين، وأوضحنا أن هذا الفهم مباين لما استقر أهل العلم والإيمان؛ فما جاء في الحديث من وصف الحالف بغير الله بالكفر أو بالشرك لا يعني أنه مشرك أو كافر بمجرد حلفه هذا؛ إلّا أن ينضم إلى هذا الحلف معنى قلبي زائد وهو تعظيم المحلوف كتعظيم الله تعالى، فيكون حينئذٍ كافراً باعتقاده الفاسد، لا بمجرد حلفه.
وأن الترجي والتوسل أو تأكيد الكلام بشيء من هذا أمر جائز لا حرج فيه؛ قد ورد عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووقع في كلام الصحابة رضي الله عنهم، وجرت به عادة الناس قديماً وحديثاً بلا نكير، فلا يمكن أن يكون حراماً فضلاً عن أن يكون شركاً، ولا يجوز للمسلم الحق أن يتهم إخوانه بالكفر أو بالشرك بلا بينة أو برهان فيدخل بذلك في وعيد قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا كفر الرجل أخاه فقد باء بها أحدهما».
بين التشدد والاحتياط
ثم أوضحنا التشدد والتشديد من الناحية الشرعية، وأن التشديد خلاف التخفيف، وهو: الغلو بمجاوزة الحد المألوف، وتكليف النفس من العبادة ما هو فوق طاقتها وفوق ما طلب منها، قال صلى الله عليه وسلم: «إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين»، وقال صلى الله عليه وسلم «إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة»، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هلك المتنطعون» قالها ثلاثاً؛ أي: المتعمقون، المغالون، المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم.
هذه بعض لمحات من خطايا خوارج العصر.. نسأل الله أن يحفظ ديننا ومجتمعاتنا منهم.