«السترات الصفراء» و الإشارات الحمراء
كمال بالهادي
بدا الأمر صادماً لوسائل الإعلام الغربية و هم يتابعون أعمال التخريب و الحرق و النهب و السلب في قلب «الشانزليزيه»، أي في القلب النابض للحضارة الغربية بكلّ رموزها الثقافية و الاجتماعية و الاقتصاديّة و السياسية و الحضاريّة. كانت الصور الآتية من باريس مساء السبت الماضي، أشبه بتلك الصور التي تأتينا من العراق و من اليمن ومن سوريا و أفغانستان. فلماذا حدث ذلك؟ وهل باريس هي الضوء الأحمر الذي اشتعل ضدّ النظام الرأسمالي في الغرب الليبرالي..؟
عرّاب ثورات ما سمّي «الرّبيع العربي»، الكاتب الفرنسي برنار هنري ليفي، و الذي وصل به الأمر إلى حدّ الذهاب إلى ساحات القتال؛ لدعم من سمّاهم «ثوّار الربيع العربي»، و كان يلتقط معهم الصور، وينشرها على حسابه في تويتر، متبجّحاً بكلّ ذلك الدّمار و الخراب الذي حقّقته الجماعات الفوضوية في أكثر من دولة عربيّة، سارع إلى نشر تدوينات متتالية يدين فيها أعمال النهب و التخريب، و يعبّر فيها عن صدمته مما يحدث في قلب عاصمة الأنوار. هنري ليفي أطلق كل النعوت الممكنة على أصحاب «السترات الصفراء»، ووصف أعمالهم بأنها بربرية و وحشية، ولا علاقة لها بقيم المواطنة و الديمقراطية، وطالبهم بالاعتذار عمّا حصل قبل أي تفاوض معهم. و لكن الذين خرجوا في احتجاجات رافقتها أعمال عنف كما يقع في جميع أنحاء العالم، لا يهتمون لكلام هنري ليفي، فيلسوف السلطة و الليبرالية و الصهيونية، وحتى عرّاب المسيحيين الإنجيليين؛ لأنّ البطون إذا جاعت قد تلجأ إلى الإتيان على الأخضر و اليابس، في لحظات ما سمّي على مستوى غربي ب«ثورات الفوضى الخلاّقة».
في كلّ الأحوال، فإنّ أعمال التخريب و النّهب، هي مظاهر سلبية، و علينا أن ندينها أينما وقعت، و لكن حملة «السترات الصفراء»، تبدو ذات أبعاد و خفايا أكبر بكثير من أحداث عنف وقعت عل هامش التحركات السلمية. و الشعب الفرنسي الذي خرج إلى الشوارع، لم يأتوا له بمرتزقة من أقاصي الدنيا حتى يفعل ما فعل، إنهم أبناء الثورة الفرنسية الذين، استحضروا «مقصلة الثورة» الفرنسية ووضعوها قبالة قصر الإليزيه، في إشارة واضحة إلى أنّ النظام السياسي الفرنسي، قد تاه عن مبادئ الثورة الفرنسية الحقيقية، و أنّ ما فعله الفرنسيون في نهاية القرن الثامن عشر، لم يكن سوى نتاج عوامل اجتماعية و اقتصادية يرونها ماثلة اليوم، بعد أن أثبتت الليبرالية و مفاهيم العدالة و المساواة أنها مجرّد حجاب يغطي واقع البؤس الذي تعيشه فئات اجتماعية واسعة، تشعر أن النظام الرأسمالي يطحنها ويسحقها.
والحقيقة أن شرارة ما يحدث في باريس، تؤشّر إلى أنّ عواصم أوروبية أخرى قد تشهد ما شهدته عاصمة الأنوار، و هذا واقع مواقع التواصل الاجتماعي، دورها في التعبئة و التحشيد. الشرارة وصلت إلى بلجيكا المجاورة، و إلى هولندا، و إلى إسبانيا، وقد تتبنى الحكومة الإيطالية هذه الحركات.
بالرغم من أن الحكومات الأوروبية حاولت الرهان على صناعة الفوضى و تدوير محركات صناعة الأسلحة، إلا أنّ كل ذلك لم يخرج أوروبا من أزمتها. و قد استفحلت الأزمة الاجتماعية على وقع الوعود السياسية التي يطلقها الزعماء الأوروبيون، دون أن تجد طريقها إلى الحل. و يمكن إيجاز ما يحدث في أوروبا في نقطتين مفصليتين:
الأولى، تتمثل في صعود الأحزاب اليمينية، التي حاولت استغلال فشل الأحزاب التقليدية، وصعود هذه القوى يعبّر عن عنف سياسي مكبوت، انفجر في صناديق الاقتراع، و قدّم إلى الأضواء أحزاباً لا تؤمن على سبيل المثال بفكرة الاتحاد الأوروبي، و خروج بريطانيا كان خير دليل على ذلك.
الثانية، يمكن فهمها في الإطار التالي، فبما أن صعود اليمين المتطرف هو نوع من التعبير عن العنف الرمزي، فإنّ الخروج إلى الشارع هو تعبير عن عنف اجتماعي، بعد أن صمّ السياسيون آذانهم عن مطالب الشعوب، و صمّوا آذانهم عن تلك التحركات الاجتماعية التي تقودها النقابات العمالية.
فرنسا هي التي أرست دعائم النظام السياسي الحديث في العالم المعاصر، من خلال الثورة الفرنسية و مبادئ حقوق الإنسان. وهي التي ظلت على مدى عقود، عنوان الرقي الحضاري للبشرية جمعاء، بالرغم من كل الجرائم التي ارتكبتها فرنسا الاستعمارية. و ما يحدث فيها اليوم ليس مجرّد ألوان صفراء، بل هي ألوان حمراء تعلن نهاية صلاحية نظام سياسي و اقتصادي عالمي، لم تجعله العولمة سوى نظام متوحش، فكانت ردود الأفعال متوحشّة.
belhedi18@gmail.com