السياسة القطرية بين الواقع والطموح
سالم سالمين النعيمي
بداية دعونا نُسلم بأن القوى الكبرى بحاجة إلى البقاء على قيد الحياة من خلال طرق جديدة للحفاظ على الاقتصاد، ولديها مصلحة في زعزعة استقرار القوى الإقليمية من خلال تأجيج الصراعات ونشرها في المنطقة، وذلك كورقة ضغط على الدول الرئيسية سياسياً واقتصادياً وبكل بساطة استخدام الانقسامات الإقليمية لضمان الضغط على دول المنطقة المؤثرة حتى لا تضر بمصالحها!
ويبرز هنا دور قطر كمُصدّر رئيسي للغاز في العالم ودولة نفطية غنية تمول الاستثمارات وتدعمها في كل قارات العالم، وذلك ما يفسر وجود أكبر قاعدة جوية أجنبية في العالم في قطر، وهي قاعدة «العديد» الأميركية، ومن هذا المنطلق تغض الولايات المتحدة وغيرها الطرف عن تمويل قطر الكبير للإرهابيين ودعم الراديكاليين الإسلاميين وإيوائهم لزعزعة استقرار الحكومات المجاورة، وتنفيذ خطط القوى المتضاربة للنهوض بمصالحها الجيوسياسية في الوطن العربي، مقابل عدم التدخل في الشأن القطري وسياستها الخارجية لملأ الفراغات السياسية في دول مثل مصر وسوريا والعراق وليبيا واليمن وتونس، استناداً إلى رؤيتها المختلفة لمستقبل العالم العربي السُني.
فكل ما تقوم به دولة قطر الشقيقة مدروس ويخدم أجندات غيرها في المنطقة، ويكفي أن نقول إن قناة «الجزيرة» الإخبارية القطرية لديها وفق بعض الإحصائيات المستقلة ما يقارب من 50 مليون مشاهد عربي تمت برمجة العديد منهم وتلويث عقولهم وفق رؤى السياسات القطرية والأدوار التي تلعبها في المنطقة.
وهنا لا بد من أن نذكر نوعية التهديد المباشر على كل دولة، وأن بعض الدول الخليجية أكثر من غيرها عرضة لهزات أمنية وسياسية واقتصادية بحكم موقعها وتركيبتها السكانية وأزمة الولاءات المقسمة والدولة مقابل المرجعية، والدولة في وجه الإيديولوجية، والدولة في مواجهة الأحزاب والجماعات الإقصائية، دون إغفال المكون القبلي وعلاقته بالسياسة في بعض الدول الخليجية، وخطورة ذلك على مفهوم الدولة الوطنية.
وما بين الطموح الشخصي لأشخاص يتصدرون الموقف في العلن وقوى مسيطرة تتصدر الموقف خلف الكواليس، ناهيك عن الخوف من ابتلاعها من قبل القوى الأكبر في المنطقة، وعقدة الدولة الصغيرة وهو موضوع لا يستهان به، حيث تتداخل توجهات الدولة في مجتمعاتنا الخليجية ووحدة البيت الداخلي وتماسكه بشخصية من يقف على قمة الهرم السياسي، ويتبلور ذلك في سعي قطر لتأمين موقفها الداخلي والخارجي للتحالف الطبيعي مع قوى الإسلام المتطرف لضمان عدم توجه للداخل القطري المنقسم على نفسه سياسياً وعرقلة مشروع بناء دولة عالمية، وتحقيق حلم التفوق على دولة معينة لحجمها وثقلها السياسي والديني والاقتصادي في المنطقة ودولة أخرى بسبب تفوقها التنموي، والتطور الذي وصل لحد أصبح يشكل خطراً عليها بحيث أن المقارنات المعقودة أصبحت هاجساً يؤرقهم.
ولم تكتف الحكومة القطرية بالسير عكس التيار الخليجي في الخارج، بل سعت للنيل من استقرار بعض الدول الخليجية في الداخل من خلال الحرب الإعلامية وغزوات العالم الافتراضي ومعارك مواقع التواصل الاجتماعي وتشويه السمعة والتشكيك في الأهداف الحقيقة للتدخل في بؤر الصراعات الإقليمية والتخويف والترهيب بغرض النيل من نجاحات شقيقاتها، وهو التطور الخطير الذي قادها للمواجهة المباشرة في سوريا واليمن وليبيا وغيرها من الدول مع شقيقاتها الخليجية والعربية، واستشهاد العديد برصاص وسلاح دفعت قطر ثمنه مقدماً حتى أصبحت يدها ملطخة بدماء أشقائها العرب.
ومن ناحية أخرى تجاوزت قطر كل الأعراف في ما يخص الأمن الخليجي، وذلك من خلال حجم التعاون الأمني والاستخباري بين قطر وإيران، والتنسيق في عمليات تمويل الميليشيات في مناطق الصراع، وسيناريو تحول قطر لقاعدة أمنية إيرانية في قلب الخليج مجرد مسألة وقت، وخاصة أن حقل الغاز المشترك بين إيران وقطر يعتبر نقطة محورية في الخطة القطرية لبناء قطر المستقبل والأمن الوطني القطري، وهو يرتبط بإيران ارتباطاً وثيقاً من بوابة الأمن الاقتصادي، والحال نفسه ينطبق على العلاقة التركية- القطرية، وكلمة السر هي الغاز واستفادت أنقرة من قوّة الدبلوماسية المالية لقطر.
وفي ظل السياسات والتوجهات الحالية للحكومة القطرية، أصبح الأمر يتطلب تدخلاً جراحياً سريعاً و«ذكياً» لوقف النزيف وتحول الخليج لفيدرالية خليجية لها جيش مشترك وعملة مشتركة وسياسة خارجية واحدة قبل فوات الأوان.. فمجلس التعاون الخليجي خلال الأزمة القطرية- الخليجية الأخيرة، أثبت بما لا يدع للشك بأنه استنفذ دوره التاريخي، والخطوة القادمة تتطلب شجاعة من نوع خاص للمضي إلى الأمام بعيداً عن الأوهام.
*نقلا عن “الإتحاد”