الشعبوية الترامبية ومناهضة الـ «سيستم»
د.غسان العزي
لم يكن دونالد ترامب أول مرشح يصل إلى السلطة على خلفية مناهضة الاستابلشمنت أو «السيستم» القائم، فقد سبقه إلى ذلك زعماء في أوروبا وفي غيرها ومنذ وقت ليس بقصير. لكن من اللافت أن يعود الخطاب الشعبوي ليضحي اليوم أشبه ب«موضة» تنتشر في العالم بعد أن تخلص هذا الأخير من الأحزاب الشعبوية التوتاليتارية التي تسببت بحربين عالميتين وحروب متفرقة كثيرة وبعد أن بسطت الديمقراطية جناحيها عليه لا سيما بعد نهاية الحرب الباردة.
فالأحزاب الشعبوية باتت تتقدم من انتخابات إلى أخرى في أوروبا وخارجها إلى درجة أن بعضها وصل فعلاً إلى السلطة، كما في إيطاليا وبولونيا وهنغاريا أو بات قريباً جداً منها كما في فرنسا والنمسا وتشيكيا. وقد وصلت هذه الموجة إلى البرازيل التي بات يحكمها رئيس لا يخفي عنصريته وحنينه إلى الحكم الدكتاتوري العسكري الأسبق الذي مارس كافة أنواع القتل والتعذيب والاستبداد، وإعجابه بسلوك وسياسات الرئيس ترامب. وقد باتت «الترامبية» في صلب المشهد السياسي الأمريكي كما أتت نتيجة انتخابات الكونجرس النصفية بعد أن اعتقد كثيرون أنها ليست أكثر من ظاهرة احتجاجية عابرة لا أفق أمامها.
كذلك، فإن مسألة العلاقة الملتبسة والمتوترة أحياناً بين الرئيس و«الاستابلشمنت» ليست جديدة في واشنطن. ففي الديمقراطيات لا يقرر الرئيس بمفرده كل شيء ولو أنه منتخب من قبل الشعب، فهناك إدارة وقضاء وكونجرس وشركات كبرى وجماعات مصالح ورأي عام وإعلام وغيرهم. وعلى سبيل المثال في بدايات الحرب الباردة كان كل «السيستم» السياسي-العسكري يدفع إلى المواجهة مع المعسكر الشرقي بزعامة الاتحاد السوفييتي، وهي نزعة حذر الرئيس دوايت آيزنهاور من خطورتها بسبب مصالح المجمع العسكري-الصناعي وذلك في خطاب «تاريخي» ألقاه لدى مغادرته السلطة في العام 1960. واليوم نتكلم كثيراً عن «الدولة العميقة»، وهو مصطلح ابتدعه الفرنسي بيار رينوفال وعنى به الأجهزة الأمنية والاستخباراتية والعسكرية والإدارية.
ترامب رئيس شعبوي يسعى إلى توكيد شرعيته عبر التواصل المباشر مع الشعب وتحديداً من خلال التغريدات التويترية من دون وسطاء من إعلاميين وسياسيين وغيرهم. وإذا كان الزعماء الكاريزماتيون إجمالاً يشتركون بالقناعة بتفوقهم وحدسهم المرهف ودعم العناية الإلهية لهم، ففي حالة ترامب تبدو الأمور أكثر تعقيداً بسبب سمعته السيئة والتشكيك العلني الدائم بأهليته وقدراته وملاحقة الإعلام له وغير ذلك، ما يدفعه لهذه العلاقة المباشرة مع الشعب كوسيلة أكثر فاعلية لمواجهة «السيستم» الذي أعلن عليه الحرب منذ بداية حملته الانتخابية.
رغم كل ذلك، فإن ترامب مجبر على التعاطي مع مؤسسات راسخة الجذور والنفوذ تحظى بحماية الدستور والقوانين، لذلك أحاط نفسه بمستشارين ووزراء ذوي خبرة وباع طويلة في العلاقة مع «الاستابلشمنت»، وكلهم تقريباً من الصقور، دون أن يتورع يوماً عن إقالة واستبدال من يخالفه الرأي، إلى درجة أنه في سابقة غريبة أقال وزير الخارجية السابق ريكس تيليرسون بتغريدة بسيطة.
في جميع الأحوال هناك أنواع ثلاثة من الملفات لا بد للرئيس الأمريكي من التفاعل عبرها مع «السيستم»، أولها تلك التي يمكن له أن يفرض رأيه فيها لأنها تقبع في قلب العلاقة مع النواة الانتخابية المؤيدة له في الطبقة المتوسطة البيضاء (الدفاع عن المصالح التجارية ومناهضة الهجرة والتشكيك بمقولات التغير المناخي والاحتباس الحراري. إلخ.) وهناك تلك المتعلقة بالمقاربة التقليدية للسياسة الخارجية حيث اضطر لتقديم تنازلات في ملفات العلاقة مع روسيا والصين على سبيل المثال. هناك أخيراً ملفات تلتقي فيها آراء وأفكار الرئيس مع قسم من «السيستم» (الصقور والمحافظون الجدد على سبيل المثال) مثل تلك المتعلقة بالدعم غير المحدود ل«إسرائيل» (مع نقل السفارة الأمريكية إلى القدس على سبيل المثال) أو تصعيد المواجهة مع إيران، أو دعوة الأوروبيين وأعضاء حلف «الناتو» الآخرين إلى تحمل الأعباء المالية للدفاع الغربي إلى جانب الولايات المتحدة.
وعلى الرغم من شخصية ترامب المتهورة والعصية على التوقع فليس من غير المحتمل في نهاية الأمر، أن يتوصل إلى نوع من التوازن والاستقرار في العلاقة مع «الاستابلشمنت» الذي طالما وجّه له الانتقادات ووعد بتغييره. في هذه الحالة يكون المنصب الرئاسي هو الذي غيّر الرجل وليس العكس.