الشعر والملح
يوسف أبولوز
بعض نقاد الأدب، وليس كلهم مع التأكيد على ذلك أكثر من مرة، يفسدون الشعر، وبالتالي، يفسدون اللغة، واللغة الصافية الحية هي عصب حيوي لأي نص شعري.. ولكن كيف يتمثل إفساد الناقد الأدبي؟.. أولاً هو إفساد غير مقصود لأنه ناجم عن الجهل.. والجاهل يعتقد دائماً أن الحقيقة المطلقة مكانها في جيب سترته.
الشعر يقوم أصلاً على الصورة، والصورة الشعرية تتألف من نسيج من المفارقات أحياناً، بل أحياناً كثيرة، والأصل في الصورة الشعرية أنها إيحائية إشارية.. بكلمات ذات حساسية عالية تتجاذب بقوة بعيداً عن أي تنافر، سواء في بناءاتها الأبجدية أو الإيقاعية.
الآن.. يأتي ناقد أدبي «جاهل» هو بعيد عن هذه البيئة الشعرية البالغة الحساسية، وكل رأس ماله أنه حاذق في معرفة مصطلح نقدي هو في الأصل مصطلح نقدي غربي، ويأخذ بتطبيق ما هو غربي على ما هو عربي وبإمعان نظري، بل وبشيء من ممارسة السلطة التي هي سلطة النقد.. فيخرب كل شيء، أو يفسد كل شيء، بما فيه إفساد اللغة.. هذا نوع من هؤلاء النقاد.
.. النوع الثاني بإمكانك أن تسميهم «حملة الأيديولوجيات» الذين لا يتعبون من حملها، وكل نص شعري ليس مشحوناً ببطارية أيديولوجية هو نص فارغ، وهؤلاء ليسوا فقط سلطة نقدية، بل هم أيضاً سلطة حزبية أي سياسية كل من هو ليس من طينتهم هو عدوهم.. وهذه السلطة المركبة بالذات هي التي تفسد الشعر.. مع الملاحظة أن مثل هذا الفساد الثقافي لا يقتصر في تطبيقاته على الشعر فقط، بل ويتعدى الشعر إلى القصة والرواية، وكل ما هو إبداعي جمالي.
لا يفكر بعض نقاد الأدب برائحة اللغة وملمسها وموسيقاها وإيقاعها الداخلي والخارجي.. لا يفكر بعض النقاد بما سمّاه الناقد السوري كمال أبوديب «فجوة التوتر»، أو بما ذهب إليه الروائي اللبناني «إلياس خوري» من قراءات شفافة للشعر طابعها الجاذبية والإبهار.. ولنلاحظ هنا أنه روائي في الأصل، غير أن روائية خوري هي شعرية بامتياز، وروحه القارئة هي شعرية أيضاً، ولذلك، فقد كان دائماً من المقربين والأوفياء لروح الشعر.
لا يكفي بعض نقاد الأدب أن يركب المصطلح أو النظرية على كتفيه ويمشي بهما معصوب العينين.. ولا يكفي أيضاً أن تعرف وزن الخليل بن أحمد الفراهيدي وزحافاته وأوتاده ومجزوءاته على أهمية كل ذلك.. كما لا يكفي أن يكون للناقد مقعد محجوز دائماً في الجامعة أو في الأكاديمية.. كل ذلك مهم، لكن الأهم ألا تفسد الكتابة.
الشعر مثل الملح يفسده الماء والرمل.. لكن كيف تضع إناء الماء إلى جوار إناء الملح؟.. وكيف تزرع شجرة وتحول التراب إلى قماش أخضر؟؟ أسئلة صغيرة شفافة لا يجيب عنها إلا الشعراء.. إخوة النقاد.. لكن في الرضاعة فقط.