الصين التي تخافها أمريكا
عاصم عبدالخالق
في كل تقارير الأمن القومي التي تصدرها المؤسسات الأمريكية، تأتي الصين في مقدمة التحديات الاستراتيجية التي يدعو الخبراء للحذر منها والتحسب لها. بل يعتبرونها تحدياً فريداً من نوعه، بما يجعلها الأهم والأخطر. التهديدات الأخرى يمكن مواجهتها واحتواء أخطارها، وكلها آنية ولا تهدد زعامة أمريكا وهيمنتها العالمية. الإرهاب يمكن الحد من شروره بضرب ملاذاته الآمنة وكوادره وتجفيف منابعه المادية والفكرية. أسلحة الدمار الشامل من السهل الوصول إليها وتدميرها. الإزعاج الروسي ليس من الصعب مواجهته وردعه. القوى الإقليمية المشاغبة مثل إيران وكوريا الشمالية لا تهدد واشنطن تهديداً عسكرياً حقيقياً على ضوء سهولة سحقها إن اقتضى الأمر ولو ببعض الخسائر.
الصين مسألة أخرى تماماً، وهي لا تشكل تهديداً عسكرياً وإلا لهان الأمر وسهلت مواجهتها، ولكنها تهدد مستقبل أمريكا ونفوذها وزعامتها للعالم. والصين بنموها وصعودها الصاروخي اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً وتكنولوجياً، وبتمددها واتساع نفوذها جغرافياً تتحول بالتدريج إلى قوة عظمى بازغة، وهو ما يعني تقويض النظام العالمي الذي أنشأته أمريكا وتربعت على قمته بلا منازع منذ انتهاء الحرب الباردة. من هنا ينبع القلق الأمريكي. ومن هنا يستشعر الأمريكيون خطورة طموح المارد الأصفر.
الصين بالفعل تخطط لحكم العالم، كما كتب في «الواشنطن بوست» الصحفي الأمريكي الشهير ديفيد أجناتيوس الأسبوع الماضي. دليل الكاتب على هذا الحكم القاطع دراستان مهمتان أشرفت عليهما وزارة الدفاع الأمريكية. ورغم أنهما غير سريتين، فإن توزيعهما محدود للغاية. الدراسة الأولى تركز على رصد جهود الصين لمد نفوذها ليشمل الدائرة الأوروبية الآسيوية أو ما يعرف بإقليم «أوراسيا»، وفي سبيل ذلك تنفق بسخاء جنوني لتنفيذ مشروعها العملاق «طريق واحد حزام واحد» أو الطريق والطوق. توضح الدراسة أن تكلفة هذا المشروع تتجاوز إنفاق مشروع مارشال الذي نفذته أمريكا لإعادة إعمار أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية. لم تتجاوز تكاليف مارشال 150 مليار دولار «بحساب اليوم» واستفادت منه ستة بلدان فقط. أما المشروع الصيني فقيمة استثماراته تزيد على تريليون دولار ويغطي أكثر من 64 دولة.
أكثر ما يستوقف الأمريكيين هنا هو أن المشروع ليس نشاطاً تجارياً خالصاً، لكنه أكبر من ذلك بكثير، فهو يؤسس لنظام اقتصادي عالمي تقوده الصين، ويضع البلدان المستفيدة منه في دائرة النفوذ الصيني المباشر. وكما تقول الدراسة فإن الصين تقيم بالفعل البنية الأساسية لزعامتها ونفوذها العالمي. أحد مكونات هذا البناء هو البنك الآسيوي للبنية التحتية الذي أقامته كنموذج بديل وموازٍ للنظم المالي الغربي. في هذا الإطار تطور الصين سلسلة موانئ بحرية في المحيط الهندي من سريلانكا وماليزيا إلى باكستان وبورما وصولاً إلى جيبوتي وكينيا في إفريقيا. وتقدر الاستثمارات الأولية لهذا التوسع الضخم بنحو 250 مليار دولار.
ولا تغيب أوروبا عن اهتمام الصين التي يبدو أنها قررت اتخاذ اليونان كرأس جسر للعبور إلى القارة البيضاء. ولهذا تستثمر حالياً 13.6 مليار دولار لإدارة ميناء بيروس والاستحواذ على حصة كبيرة في شركات الاتصالات والمرافق. ونجحت بالفعل في مد خطوط سكك حديدية تربطها بتسع دول أوروبية.
وفي سعيهم لصناعة المستقبل، لم يهمل الصينيون التكنولوجيا، وهو ما تركز عليه الدراسة الثانية التي تشير إلى أكثر من 50 مشروعاً علمياً مشتركاً أقامتها الصين مع بلدان الطوق والطريق. وتخطط لجذب أكثر من 500 عالم ومهندس وخبير أجنبي خلال خمس سنوات.
توضح الدراسة أيضاً أن الصين باتت تنافس أمريكا بل تتفوق عليها في عدد براءات الاختراع. هذا التفوق العلمي ليس استثنائياً، فعلى المستوى الاقتصادي أيضاً تضج واشنطن بالشكوى من العجز التجاري الضخم مع الصين والذي بلغ في العام الماضي فقط 309 مليارات دولار. ولو لم يكن لدى أمريكا سبب آخر غير هذا للقلق من الصين، لكان كافياً وزيادة.
assemka15@gmail.com