مقالات اجتماعية

الطبقة الوسطى.. العداء مع التجديد

حلمي النمنم

تميل الطبقة الوسطى فى مجتمعنا- تاريخيًّا- نحو الاتجاهات المحافظة سياسيًّا وفكريًّا واجتماعيًّا، رغم أن هذه الطبقة حققت العديد من المكاسب ونعمت بالكثير من الفرص نتيجة التحولات الكبرى سياسيًا وتاريخيًا. تأمل تجربة محمد على، فى بناء دولة وطنية -حديثة، وفى سبيل ذلك أطاح بالطبقة العليا التى ظلت مسيطرة لقرون عديدة على مقاليد الأمور، تحديدًا المماليك والملتزمين أو الأعيان، ليتقدم المتمصرون والمصريون من أبناء الطبقة الوسطى، مثل الشيخ حسن العطار ورفاعة الطهطاوى وآخرين، ثم واصل الوالى محمد سعيد منح الفرص للمصريين من أبناء الطبقة الوسطى.

كان يطلق عليهم «أبناء الفلاحين »، أحمد عرابى ورفاقه كانوا أبرز هؤلاء؛ ثم تأتى ثورة 19 لتتيح لأبناء الطبقة الوسطى فرصًا أكبر، تقدم الأفندية خطوات أكثر نحو قمة المسؤولية، وتصادف أن الثورة البلشفية كانت نجحت فى روسيا، إذ هرعت كثير من الدول، بما فيها مصر، لتقديم الدعم والخدمات لأبناء الطبقة الوسطى وظهر مصطلح «العدالة الاجتماعية » كيلا ينجذب أبناء هذه الطبقة نحو أفكار ماركس ونموذج ستالين والحزب الشيوعى. يجب ألا نندهش من حقيقة أن الملك فاروق نفسه هو من تحدث عن العدل الاجتماعى فى خطاب العرش (أكتوبر سنة 1945)، فى كلمة واحدة كان التاريخ المعاصر يتحرك لصالح الطبقة الوسطى وأبنائها، لا نبالغ إذا قلنا إنها «الطبقة المحظوظة»، التفاصيل فى ذلك كثيرة.

مفهوم أن الطبقة الوسطى تبحث عن الاستقرار وتسعى إليه، ضمنيًا تنفر من التغيير، خاصة إذا كان غير منضبط أو غير محسوب العواقب والنتائج، وهذا يعنى أن الجديد لا يكون موضع ترحيب لدى أبنائها، وإذا حدث تجديد يكون للضرورة القصوى وبحذر شديد وبطىء أو متدرج.

التجديد السريع أو الجذرى يثير القلق والخوف، ربما يكون مغامرة أو مقامرة، قد تقود إلى الخسارة، لنتأمل المثل القائل «اللى نعرفه أحسن من اللى مانعرفهوش »… «إمشى سنة ولا تخطّى قنا»، رغم أن المشى سنة يمكن أن يجلب الضعف أو المرض ومضيعة للوقت، خاصة إذا أمكن بناء قنطرة أو جسر للعبور أو التخطية.

ولأسباب عديدة اقتصاديًا وسياسيًا، يمكن أن نلاحظ ازدياد هذا الاتجاه فى العقود الأخيرة، حتى وصل إلى التشدد فى بعض المواقف والتزمت فى عدد من الأفكار.

يمكن أن تتقبل (الطبقة الوسطى) الجديد على مضض، إذا تبنته الجهات الرسمية أو دعت إليه الدولة، ويأخذ به أبناء هذه الطبقة إذا ثبت أن له فائدة عملية مباشرةً، غير ذلك يمكن أن يتحول التخوف إلى عداء، ذلك أن الجديد يعنى- ضمنيًا- التخلص من القديم وقد يرونه نقيضًا للقديم ومعاديًا له، أحيانًا نستغرق عقودًا، حتى يتم تقبل الجديد نسبيًا، لنتأمل قضية مثل الزيادة السكانية التى يدور حولها الجدل منذ أكثر من (110) سنوات أو مسألة ختان الإناث.

فى بعض الحالات يتم مرادفة عادة أو سلوك قديم بالهوية، فتصبح الدعوة إلى التجديد لدى هؤلاء عدوانًا على الهوية والتصدى له واجبًا قوميًا.

يمكن أن نلاحظ أن معظم- ليس الكل- دعوات التجديد والمجددين، كانوا من أبناء الطبقة العليا، فى القرن التاسع عشر سوف نجد أسماء مثل محمد شريف (باشا)، الملقب بـ«أبو الدستور»، هو من سعى بإخلاص نحو وضع وإقرار أول دستور وإقامة حياة نيابية مبكرًا، زمن الخديو إسماعيل، فى المجال التشريعى والقانونى محمد قدرى باشا هو الذى قدم أول صياغة للقانون المدنى الحديث، ثم يقابلنا قاسم أمين (بك) فى المطالبة بحقوق المرأة، ثم الشيخ على عبد الرازق صاحب الصوت الجرىء فى كتابه «الإسلام وأصول الحكم»، الذى أزعج الملك فؤاد بشدة. لطفى السيد الذى تبنى مبكرًا الليبرالية ودعا إلى الديمقراطية، أعلن أمام جمهور الناخبين فى الريف أنه ديمقراطى، لم ينافق ولم يتلون، رغم ما أشيع وقتها عن أن الديمقراطية هى زنا المحارم وشيوع الشذوذ الجنسى، هؤلاء جميعًا وغيرهم، كانوا فى النهاية أبناء الطبقة العليا أو من كبار الملاك والأعيان. حتى الفكر الاشتراكى (الماركسى) كان معظم رواده من أبناء الأرستقراطية المصرية.

كبار الملاك أو الأعيان فى بدايات القرن العشرين كانوا وراء جماعة جريدة «الجريدة»، ثم حزب الأمة، عدد من هؤلاء هم الذين تبنوا الدعوة إلى تأسيس الجامعة المصرية وساهموا ماليًا فى إنشائها، بدأت العمل فعلًا سنة 1908.

المفارقة فى تاريخنا أن ابناء الطبقة العليا كانوا الأكثر سعيًا نحو التوسع فى التعليم الجامعى والمجانية كذلك، بينما أبناء الطبقة الوسطى الذين نعموا بالمجانية والبعثات إلى الخارج على نفقة الدولة، كانوا فى الأربعينيات والخمسينيات أيضًا، ضد ذلك التوسع باسم الانحياز إلى الكيف وليس الكم، الأمر الذى أثار حيرة ودهشة طه حسين وقد عبر بمرارة عن استيائه من هؤلاء فى أحد فصول كتابه «جنة الحيوان».

ويذهب بعضنا فى لحظة حماس إلى أن الطبقة الوسطى هى التى قدمت كل المبدعين فى مختلف المجالات، وهذا أقرب إلى الانحياز الطبقى المقيت، فضلًا عن أنه إنكار لبقية طبقات المجتمع ومحاولة لاحتكار كل شىء، حتى لو كان بتزوير الحقائق.

أسماء مثل الأمير عمر طوسون والأمير يوسف كمال وكذلك محمود سامى البارودى وأحمد شوقى وآل تيمور جميعا بدءًا من الكاتبة عائشة عصمت تيمور ومحمد تيمور وغيرهم، كانوا من الطبقة العليا، ولا يمكن إنكار ما قدمه كل منهم فى مجاله.

ولدينا أسماء مثل سيد درويش وبيرم التونسى وأحمد فؤاد نجم، كانوا من الطبقة الفقيرة، على الأقل فى بداياتهم ونشأتهم، بل إن أم كلثوم نفسها بدأت من الصفر، فى ريف القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، كان صغار المشايخ يعدون من أفقر الفقراء، هى خرجت من هذه الفئة، بكفاح نادر واعتزاز بالذات وكبرياء إنسانية رفيعة صارت الكوكب العظيم.

لا يعنى هذا أن الطبقة الوسطى لم تقدم مجددين أو راغبين فى التجديد، قدمت عظماء، طلعت حرب فى الاقتصاد، طه حسين فى الأدب والنقد، العظيم نجيب محفوظ فى الرواية وعشرات الأسماء فى مختلف المجالات، بينهم من دفع حياته ثمنًا لأفكاره ومواقفه أو كاد يدفعها، فرج فودة نموذجًا، نجيب محفوظ أيضًا ونصر حامد أبوزيد.

ولأن الطبقة الوسطى شديدة الاتساع والتنوع، أحيانًا تبدو كما لو كانت مترهلة فقد عرفت جناحًا شديد المحافظة، قاد التطرف فى المجتمع وألبسه ثوبًا دينيًا، أكثر من ذلك أنه قاد العنف ورفع السلاح ضد الدولة ومارس القهر على المجتمع. بوضوح أكثر، الطبقة الوسطى قدمت معظم رموز التشدد والإرهاب، حسن البنا وربيبه عبدالرحمن السندى ثم سيد قطب وغيرهم من قادة تلك الجماعة وتلاميذهم أو أتباعهم إلى يومنا هذا، هم فى الأغلب الأعم من أبناء هذه الطبقة، الذين نعموا بالتعليم المجانى والمنح الرسمية، وأقاموا فى المدن الجامعية، حين كانت شبه مجانية.

وإحقاقًا للحق، معظم خصوم الجماعة أيضًا من نفس الطبقة، لكنها خصومة فى الموقف السياسى غالبًا، فى بعض الحالات قد تكون خصومة متأرجحة، وما عدا ذلك هناك أوجه من التقارب فى عديد من الأمور، بل نجد فى بعض الحالات مزايدات فى قضايا الفكر الدينى وبعض الممارسات الدينية، كى يبدو للجميع أن الخصوم أشد تدينًا منهم، تفهم الجماعات المتشددة تلك المزايدات على أنها ضوء أخضر أمامها، ما جرى لنا صيف سنة 2012 كان محصلة ذلك كله.

لذا لم يكن غريبًا أن معظم دعوات التجديد، كذلك الأفكار التى يمكن أن تعد جديدة، منذ منتصف السبعينيات ثقافيًا، بالمعنى الواسع للمفهوم وسياسيًّا لا تجد استجابة، بل عداء حقيقيًا من أبناء هذه الطبقة، خاصة أنهم يسيطرون على جل المواقع المؤثرة والفاعلة، كذلك يشكلون أغلبية المجتمع. المشكلة أننا لا نقر بذلك ونحاول تعليق المسألة فى رقبة هذا أو ذاك.

* نقلا عن “المصري اليوم

زر الذهاب إلى الأعلى