العالم في مواجهة السوق «الرمادية» للأسلحة
الحسين الزاوي
يشهد العالم خلال العقدين الأخيرين تسارعاً كبيراً في وتيرة نمو ما يمكن الاصطلاح على تسميته بالسوق «الرمادية» للأسلحة لا سيما في مناطق النزاع الرئيسية في الشرق الأوسط وإفريقيا وآسيا والتي تعرف في الأدبيات السياسية بمنطقة «قوس الأزمة»، حيث يسهم النمو الهائل لهذه السوق في تضاعف المخاطر الناجمة عن تجارة الأسلحة والمخدرات التي تشرف عليها المجموعات الإجرامية والإرهابية والدول الافتراضية الناشئة على أنقاض الدول الفاشلة التي عرفت انهياراً وتفسخاً لمؤسساتها الأمنية. يتعلق الأمر في المقام الأول بسوق ضبابية وسرية تقع في منتصف الحدود الفاصلة بين النشاط القانوني والمشروع، وبين الممارسات غير المشروعة المتصلة ببيع التجهيزات والمعدات العسكرية لدول جرى إدانتها من طرف المجتمع الدولي نتيجة قيامها بتهديد السلم الإقليمي والدولي وتسببها في اندلاع صراعات مسلحة وفي مقتل وتشريد السكان المدنيين.
وتفيد تقارير تابعة لمعاهد دولية، أن 60 دولة في العالم قامت في الفترة ما بين 2002 و2004 بتصدير أسلحة خفيفة إلى نحو 36 دولة غير مستقرة بمبلغ إجمالي قدر ب3 مليارات دولار، كما أشار المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في تقريره الصادر سنة 2012 إلى أن سوق الأسلحة الخفيفة في العالم قد تضاعف 3 مرات ما بين سنوات 2006 و2009، بمبلغ إجمالي تجاوز 8.5 مليار دولار، قامت بتصديرها دول مثل الولايات المتحدة، إيطاليا، ألمانيا، البرازيل، النمسا، اليابان، سويسرا، روسيا، فرنسا، كوريا الجنوبية، وبلجيكا. وأكدت الأمم المتحدة في السياق نفسه، أن هناك حوالي 1200 شركة مصنعة للأسلحة متواجدة في 90 دولة تصدر منتجاتها نحو مناطق التوتر والنزاع دون الالتزام بالضوابط والتشريعات الدولية المتعارف عليها في هذا المجال.
وقد بدأت السوق الرمادية للأسلحة بالانتشار بوتيرة سريعة مباشرة بعد نهاية الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفييتي، حيث اتجهت دول مثل أوكرانيا وجورجيا وبلغاريا ورومانيا وصربيا نحو إنتاج وتصدير الأسلحة الخفيفة إلى مناطق جغرافية متباعدة يتواجد معظمها في محيط «قوس الأزمة» الممتد من غرب إفريقيا إلى الحدود الأفغانية مع طاجيكستان وأوزبكستان؛ وشهدت على سبيل المثال لا الحصر الأسلحة التي أنتجتها المصانع البلغارية رواجاً كبيراً في مناطق النزاع الكبرى في الشرق الأوسط.
وعليه فإنه وبالرغم من الجهود التي بذلتها المنظمات الإنسانية الدولية برعاية الأمم المتحدة، من أجل الحد من انتشار «السوق الرمادية» للأسلحة عبر العالم من خلال إصدار أكثر من 13 قراراً متعلقاً بمنع تصدير الأسلحة منذ سنة 2000، إلا أن هذه السوق ما زالت رائجة؛ فهناك دول غير خاضعة لقرار الحظر تقوم بالتحايل على المجتمع الدولي وتتسلم الأسلحة الموجهة نحو مناطق النزاع ثم تعيد بيعها للدول التي يشملها الحظر، بشكل يصعب معه مواجهة ظاهرة السوق الرمادية التي تنقلب في معظم الحالات إلى سوق سوداء ترعاها وتشرف عليها التنظيمات الإرهابية والإجرامية، وذلك ما يفسّر استخدام المجموعات الإرهابية لأسلحة فائقة التطور في العديد من مناطق النزاع. وقد قامت بالتالي دول مثل النمسا بالتهرّب من القيود التي يفرضها الاتحاد الأوروبي على تجارة الأسلحة الخفيفة، من خلال نقل جزء من نشاط مصانعها لإنتاج الأسلحة نحو ماليزيا؛ وكانت منظمة العفو الدولية قد أشارت في تقرير سابق صادر عن إدارتها إلى أنه جرى في الفترة ما بين 2002 و 2004 تصدير كميات معتبرة من الأسلحة والذخيرة من ألبانيا وصربيا نحو رواندا التي كانت تخضع لحظر أممي فيما يتعلق بتجارة الأسلحة.
ويمكن القول في ختام هذه الإطلالة السريعة، إن الدول الغربية وفي مقدمتها الولايات المتحدة تتبادل التهم مع كل من روسيا والصين فيما يتعلق بالمسؤولية عن الانتشار السريع للأسواق الرمادية والسوداء للأسلحة عبر العالم، ومن الصعوبة بمكان على الخبراء المحايدين تحديد مواطن الخلل التي تتسبب في تدفق الأسلحة بكميات ضخمة على مناطق الحروب والجريمة المنظمة. لأن المركبات الصناعية والعسكرية في الدول الكبرى تقوم بصياغة استراتيجيتها التسويقية بناءً على مقتضيات اقتصادية وربحية لا تخضع البتة للمعايير الأخلاقية والإنسانية التي يجري الترويج لها عبر المنظمات الدولية غير الحكومية، التي تسقط في كثير من الأحيان في نوع من الانتقائية المفضوحة عندما تدين أطرافاً وتصمت في المقابل صمتاً رهيباً ومريباً عن ممارسات أطراف أخرى بل وتقوم بحمايتها والدفاع عنها. ولعل المجتمع الدولي ما زال يتذكر في هذا السياق، فضيحة «إيران -جيت» التي تفجّرت في الثمانينات من القرن الماضي في عهد الرئيس رونالد ريجان، والتي تبين من خلالها أن الإدارة الأمريكية خرقت الحظر المفروض على طهران وتورطت في تصدير شحنات من الأسلحة نحو نظام «الجمهورية الإسلامية».
hzaoui63@yahoo.fr