العشق
يوسف أبو لوز
كانت الصحف قبل نحو عشرين عاماً (السبعينات والثمانينات) تحديداً، تنشر «اسكتش» إلى جانب النص الأدبي وبالذات الشعر، يتولى تخطيطه رسام في الجريدة هو رسام «الكاريكاتير» أحياناً.. وأحياناً تتعاون الجريدة مع رسام من خارجها، وكانت الرسمة تلتقي مع روح القصيدة، مع انتشار البياض حول النص وحول الصورة.
المانشيت كان آنذاك في مرحلة الزهو الصحفي الورقي يكتبه خطاط موظف في الجريدة، وإلى الآن، مازلت أتذكر صورة ذلك الخطاط الذي كان يتولى المانشيت في جريدة «اليوم» في الدمام شرقي السعودية، وكان شاباً في نحو الثلاثين من عمره مبتسماً دائماً، وإذ هو على رأس عمله وعلى رأس قلمه، كنت أمعن النظر في رشاقة اليد والخط والقلم.. «.. نون والقلم وما يسطرون…».
كانت الحروف تجمع بيد عمال المطبعة، وكان إخراج الصفحة بالقص واللصق، ورائحة المطبعة مع رائحة الورق والأحبار.. عطر الجريدة.
لم أشتغل في صباي بائع صحف كما هي مهنة بعض الكتّاب في صباهم عرباً وأجانب، ولكن كان من اللافت للناس في الشارع، وفي المقهى، وعلى أرصفة الطرق، أن صبياً أو فتى أو حتى رجلاً في الأربعين من عمره يبيع الصحف، واليوم، ونحن في قرن الكمبيوتر وفنون التوزيع، ما أجمل أن ترى بائع صحف يقف عند الإشارات الضوئية في الفجر، ويركض من سيارة إلى سيارة ليبيع جريدة.
في ثلاثينات وعشرينات السينما المصرية، كان بائع الصحف يشبه «الأيقونة» الصغيرة للفيلم:.. أهرام، جمهورية، أخبار.. ويتبع ذلك بجملة صغيرة تساعد على رفع مبيعاته في ذلك الصباح: «اقرأ الحادثة.. اقرأ الحادثة..»، والحادثة التي ينطقها بائع الصحف المصري بلهجته الشعبية الحميمة هي «الحادسه»:… جريمة قتل في الغالب.
كانت صفحات الحوادث ترفع مبيعات الجريدة، آنذاك بما يوازي أخبار الحروب، والثورات، والانقلابات.. انقلاب رئيس على رئيس، أو انقلاب دولة على دولة.
ما كان يرفع مبيعات الصحف آنذاك أيضاً أخبار أهل الفن: الغناء، المسرح، السينما، وكان صحفي الفنون يصنع نجماً إذا كان قلمه لامعاً مثل وجه نجمة، وأكثر من ذلك كان ذلك الصحفي الذي اختفى الآن واحداً من عائلة الفن.. ضيفاً، أو مدعواً، أو حتى مستشاراً، وبعض صحفيي الفنون مع الزمن انتقلوا من الصحافة إلى السينما.
كانت الصحف ثمانية أعمدة بالكامل، والصحفي الذي يرقى إلى درجة كاتب رأي فني أو ثقافي أو سياسي، وكان مبتدئاً، كان عليه أن يمرّ في مختبر صحفي لا يرحم.. وبعد سنوات من عمله في الجريدة يظهر اسمه موقعاً تحت مقالة أو رأي.
درب الصحفي الذي يصبح له عمود كتابة كان شاقاً ووراءه تجربة وثقافة وتراكم وخبرة، ويوم ان يكتب الصحفي عموداً هو يوم رضى أمه عليه.
يقال إن الصحافة سلطة رابعة، وصاحبة الجلالة ومهنة المتاعب، ويمكن أن يضاف إلى هذه التعبيرات أن الصحافة هي العشق.
عُد إلى روح الكلمة عند محمد حسنين هيكل، وغسان تويني، وأنيس منصور، وأنسي الحاج، و«العتاقي» من خمسينيي «جرايد» مصر ولبنان.. «والدّهن في العتاقي» كما يقول المثل الشعبي.. لتعرف، وأنت تعرف، أن السلطة الرابعة، ومهنة المتاعب، وصاحبة الجلالة هي العشق.
العشق درجة أعلى من الحب…
yabolouz@gmail.com