العطار.. محمود درويش
يوسف أبو لوز
كان محمود درويش يعتذر بلباقة عن عدم قراءة قصيدته المعروفة «سجل أنا عربي» بعد سنوات من كتابتها، بل والنطق بها أمام الحاكم العسكري «الإسرائيلي» في فلسطين ١٩٤٨. وكان يقول إن القصيدة صرخة إثبات الذات العربية، وانتماء الفلسطيني لعروبته في ظل الاحتلال، وأنه لا حاجة لأن يقول العربي إنه عربي في وطنه من المحيط إلى الخليج وبين شعبه أو جمهوره. «سجل أنا عربي» هي إذاً موجهة مباشرة إلى «الإسرائيلي» وليس إلى العربي الذي هويته العروبية في شرايينه وفي دمه ومع ذلك كان الجمهور العربي وربما حتى اليوم «يطرب» لهذه القصيدة المنبرية المباشرة.
جمهور محمود درويش في تونس وفي الجزائر وفي مصر وفي المغرب يذهب عادة إلى هذا الاختيار الشعري، غير أن درويش كان يرفض هذا الاختيار وأكثر من ذلك صرّح مرة بأنه يود لو يتخلى عن خمسين في المئة من شعره الذي كان يبجله النقاد. وكانت رغبة درويش هذه بمثابة نقد للنقد، وأفضل من ينقد الشعر هو الشاعر، لأنه الأدرى بشعاب وأسرار القصيدة.
«سجل أنا عربي» لم تزعج «الإسرائيلي» بقدر ما أزعجته مثلاً قصيدة درويش «عابرون في هواء عابر»، وكلما كان درويش أو غيره من الشعراء الفلسطينيين والعرب أكثر قرباً مما هو جمالي وإنساني يتصل بالأرض والناس والحياة.. كان أكثر استفزازاً لكيان عنصري هو أصلاً ليس إنسانياً، وكان درويش يعي جيداً هذه الحقيقة.. حقيقة «دولة» مزيفة عابرة كالهواء العابر، وقائمة على فسيفساء تجميعية كما هي قائمة على أساطير لاهوتية كشف زيفها المفكر روجيه جارودي وغيره ممن اهتموا بتاريخ اليهودية.
ما أردت قوله هنا إن الشعر يتحول أحياناً، بل في كثير من الأحيان، إلى نقد مباشر لبنية سياسية وفكرية واجتماعية بعينها، وذلك عندما يكون على درجة عالية من الرهافة الجمالية أولاً، والقصيدة الواحدة، وقد تكون بعدد قليل من الكلمات يمكن أن تكون مؤثرة أكثر من تحليل سياسي طويل عريض.
والسؤال هنا، كم يحمل الشاعر من حساسية داخلية في ذاته بحيث يكون شجاعاً في ذاته، ويقول بالتالي إنه يود لو يتخلى عن جزء من شعره، أو، يقوم فعلاً بهذا التخلي، ويسقط من تراثه الشعري ما هو طفيلي وفائض عن الحاجة في الشعر؟
البعض من الشعراء يكتب عشوائياً ويقرأ عشوائياً للأسف من دون أن تكون لديه «مسطرة» يقيس عليها مزاج الجمهور وثقافته وتربيته الثقافية والنفسية.. والبعض مولع بما يمكن تسميته «التراكم»، فهو يراكم في اللغة وفي الصور وفي التداعيات المؤدية إلى شيء اسمه «الترهل» في الكتابة، والكتابة تحب الخفة والإيجاز والتركيز.
ليس بالضرورة أن تكون القصيدة طويلة ومتداعية ومتراكمة لكي تكون قصيدة، والقصائد كثيرة، ولكن الشعر قليل تماماً مثل عمل العطار الذي يقطف مئة وردة لكي يستخلص بضع قطرات من العطر، والأهم، أن تعرف متى وكيف وإلى أين ترسل هذا العطر.
كان عطر محمود درويش، وما زال في خفته وشجاعته وحساسيته الشعرية العالية.. كان عطاراً ماهراً، ولا يبيع لمن يشتري، بل، يشتري الكثير من الورد.. ويقول «إنا نحب الورد.. لكنا نحب الخبز أكثر…».