العلاقات الثقافية الخارجية لمصر
د. مصطفى الفقي
نقول دائماً إن الثقافة هي أغلى سلعة تصدرها مصر؛ فهي مستودع الكتاب والقصيدة والمسرحية والفيلم السينمائي والأغنية وكل أنماط الموسيقى العالمية والمحلية، إنها مصر حافظة التراث والوعاء الحقيقي للثقافات والحضارات في المنطقة، وأظن أن هذه القوى الناعمة لم تستخدم حتى الآن كما ينبغي، فنحن مقصرون في حق ما نملك، فلقد نزحت لبعض الدول مسروقات من تراثنا الوطني آثاراً وفكراً وفناً، ولكن مصر في النهاية لديها رصيد لا ينضب ومعين لا ينتهي، ولقد صدق (المتنبي) حين قال (نامت نواطير مصر عن ثعالبها فقد بشمن وما تفنى العناقيد). وقديما قالوا إن مصر من أغنى أمم الأرض، لأنه تجري عملية نهب لها من أعدائها وأحياناً من أبنائها على مدى سبعة آلاف عام، ولا تزال قادرة على العطاء! أقول ذلك وأنا أزعم أن العامل الثقافي هو المتغير المستقل في العلاقات الدولية المعاصرة، والذي تتبعه متغيرات أخرى تتأثر به وتمضي وراءه، فإذا تأملنا الأفكار الثلاثة الكبرى التي يتحدث عنها الغرب في العقود الثلاثة الأخيرة، وهي: العولمة، وصراع الحضارات، والحرب على الإرهاب لوجدنا أن هذه القضايا الثلاث الكبرى في مسيرة الإنسانية حالياً هي قضايا ثقافية بالدرجة الأولى، ولذلك يجب أن نعي جيداً أن العامل الثقافي أصبح شديد التأثير في المجتمع الدولي المعاصر، وأضحت له الكلمة العليا في تحقيق الأهداف والوصول إلى الغايات، ولم يعد في مقدور أحد أن يتجاهل هذه الحقيقة.
ولعل جسر التواصل بين مصر وغيرها من الأمم يبدأ دائماً بالقضايا الثقافية التي تؤثر تأثيراً شديداً في طبيعة العلاقة بين مصر وغيرها من الأمم والشعوب. وإن كانت هناك دول تعتز بسلعها الاقتصادية ومصادرها الإنتاجية ومواردها الطبيعية، فإن مصر تزهو بتراثها الحضاري ورصيدها الثقافي وتاريخها العريق. وإذا كان قد جاء عليها حين من الدهر تراجع فيه دورها أو خفت صوتها، إلا أنها كانت ولا تزال وسوف تظل ركيزة محورية في حركة البشرية بحكم التاريخ والجغرافيا والسكان، وأود هنا أن أطرح النقاط الآتية:
أولاً: لقد أنشأت مصر وزارة للعلاقات الثقافية الدولية منذ عدة عقود، ولكن تلك الوزارة تأرجحت بين الإبقاء والإلغاء مع دمج دورها في أدوار غيرها من الوزارات الشبيهة، وفي مقدمتها وزارات الثقافة والآثار والسياحة، والذين يعرفون مصر يدركون ثراءها الواسع وحيازتها لآليات القوى الناعمة وأدوات التقدم الحضاري.
ثانياً: إن ما أظهرته مصر من سلع ثقافية لا يزيد على ربع المتاح منها لأن تراثها معين لا ينضب، فلديها مئات الآلاف من القطع الأثرية والأديرة القديمة والكنائس العتيقة والمساجد العظيمة، فضلاً عن القلاع والحصون والمعابد الفرعونية التي لا نظير لها بشهادة (اليونيسكو) ذاتها.
ثالثا: إن الذين لا يدركون قيمة كنوز مصر هم مجرمون في حقها، آثمون أمام محكمة التاريخ الذي لا يرحم، ولقد عشنا سنوات طويلة تحت وهم التفوق الغربي، بينما التجارب الشرقية هي أقرب إلينا كما أن لديها حلولاً لكثير من مشكلاتنا، فالحضارة المصرية تمد يدها للحضارة الصينية، وتبتسم للحضارة الهندية، وتشد على يد حضارة بلاد النهرين، وتتطلع عبر المتوسط إلى الحضارتين اليونانية والرومانية، وتفتح ذراعيها في الدلتا مرحبة بكل التيارات الثقافية والأمواج الفكرية الوافدة إليها من كل اتجاه، إنها مصر التي لم ترفض لاجئاً ولم تنصر ظالماً ولم تستسلم لطاغية، وهي إذ تنزل إلى سوق التبادل الثقافي فإن لها الصدارة، لذلك كانت هي حاملة مشاعل التنوير في القرون الثلاثة الأخيرة، كما أنها بداية صحوة الشرق مع مدافع الحملة الفرنسية، وهي التي اختزلت تاريخ الإنسانية كلها في تعددية شخصيتها وتنوع روحها ووضوح هويتها.
إن العلاقات الثقافية الخارجية لمصر هي رصيد مهم لنا، تقع مسؤوليته على وزارات؛ الخارجية، والثقافة، والآثار، والسياحة، ويتحمل الأزهر الشريف والكنيسة القبطية مسؤوليتيهما في هذا السياق؛ لأن الأديان هي سلوك إنساني، فضلاً عن كونها توجيهاً ربانياً، كما أنها تعبير حضاري ونسق ثقافي لا بد أن ندرك دور مصر فيه، وليتذكر المرجفون أن في القاهرة تسعة معابد يهودية صالحة لأداء الطقوس، لم يقذفها المصري المتحضر بحجر في سنوات 1948 أو 1956 أو 1967 أو 1973 أو ما بعد ذلك، لأن حضارته العريقة علمته أن الأديان لله وأن الأوطان للجميع.
إنني أطالب في ختام هذا المقال بضرورة تشكيل لجنة وطنية لتنظيم شكل علاقاتنا الثقافية بالخارج، بحيث تضم خبرات من كل القطاعات والكفاءات، وتتقدمها بعض الأسماء اللامعة ممن نزهو بهم ونفاخر أمام المجتمع الدولي كله.. أيها السادة: إياكم والتفريط في السلعة الثقافية، فهي بحق أغلى ما نملك وأعز ما نقدمه للإنسانية عبر العصور.