العملاقان
د. حسن مدن
قيل الكثير عن العلاقة الملتبسة بين عملاقي الأدب الروسي الكلاسيكي اللذين عاشا في القرن التاسع عشر، فيودور ديستوفسكي وليف تولستوي، حتى أنهما لم يلتقيا أبداً رغم أنهما عاشا في الزمن نفسه، لا بل وفي المدينة نفسها، سانت بطرسبورج. وسبق أن أتينا هنا، قبل سنوات، على ذكر الواقعة التي أوردتها زوجة ديستوفسكي في مذكراتها، حيث تيسرت مناسبة لأن يلتقي الرجلان في احتفالية أقيمت في تكريم ذكرى شاعر روسيا الكبير ألكسندر بوشكين، ولكن اللقاء لم يتم.
لم يكن تولستوي راغباً في حضور الحفل عندما علم أن ديستوفسكي سيكون موجوداً، وبرّر موقفه هذا بأن ديستوفسكي سيخطف أجواء الحفل، الذي سيتحول إلى احتفاء به بدل أن يكون تكريماً لذكرى بوشكين. لكن رجاءً من الأديب الكبير تورجيينيف الذي كان يقيم في باريس وأتى روسيا خصيصاً لحضور الحفل، حمله على الموافقة على أن يحضر، ومع ذلك حرص على أن يغادر مكان الحفل بسرعة، ربما لتحاشي اللقاء المتوقع مع ديستوفسكي.
فيما بعد ألقى تولستوي باللائمة على ذلك الصديق في عدم إتمام اللقاء، في حديث بينه وأرملة ديستوفسكي بعد وفاته، إلا أن المذكرات تورد واقعة أخرى تفيد بأن بين الرجلين مشاعر سلبية، قد تكون ناجمة عن شحنة من الغيرة المألوفة بين أهل الكار الواحد، وربما تعود إلى أسباب أخرى غبر بينة.
لكننا نعثر في رسائل ديستوفسكي على رسالة بعث بها إلى إحدى السيدات، ضمَّنها تقديراً عالياً لأدب تولستوي. كانت هذه السيدة قد لامت ديستوفسكي، كما نفهم من سياق رسالته، أنه ينفق وقته الثمين في صغائر الأمور، بدل أن يسرع في إنجاز كتاب كان يشتغل عليه، وفي الرد عليها أوضح أن الأمر ليس سهلاً، فالكاتب الروائي بالإضافة إلى الحبكة يجب أن يعرف بمنتهى الدقة، وبأصغر التفاصيل، الواقع التاريخي والمعاصر الذي يصوره.
قال هذا قبل أن يضيف التالي: ليس لدينا، في اعتقادي، سوى كاتب واحد يمتلك هذه الميزة وهو الكونت ليف تولستوي لدرجة أن المرحوم فيودور تتشيف غضب مني ذات مرة بسبب تقديري هذا لتولستوي وأدبه قائلاً إن روايتي «الجريمة والعقاب» أعلى مستوى من رواية تولستوي «البؤساء».
مستلهماً تجربة تولستوي، وكذلك إرنست همنجواي الذي أشار إليه بإعجاب، قال ديستوفسكي، فيما يشبه الشرح: «رأيت وأنا أستعد لكتابة رواية ضخمة، (التي صدرت فيما بعد باسم «الإخوة كارامازوف» مع أنه عند الشروع في كتابتها كان يفكر أن يكون عنوانها: «الآباء والبنون») أن أغوص خصيصاً ليس في دراسة الواقع بذاته، فأنا ملم به أصلاً، بل في تفاصيل المجريات، مثلاً جيل الشباب والأسرة الروسية المعاصرة التي هي، كما أتلمس ذلك، بعيدة كل البعد عما كانت عليه قبل عشرين عاماً، ناهيك عن أمور كثيرة أخرى».
madanbahrain@gmail.com