الغاز والنار في شرق المتوسط
حسن العديني
ربما أيقظ تعبير شرق المتوسط في ذاكرة عشاق الأدب أجواء رواية عبدالرحمن منيف بالعنوان نفسه وتلك التي أكملها بعد أعمال أخرى «والآن هنا»، حيث الحب والعلاقات الإنسانية المتوترة والاستبداد الشرقي وهواجس ووساوس المناضلين وشكوكهم لبعضهم في المناخ السياسي المرعب.
من الوهلة الأولى يُحيي التعبير، تلك الأجواء البائسة والخانقة، لكنه يحتوي مدلولاً آخر أقدم بكثير وأبقى من غير شك، فهو يحدد منطقة جيوبوليتيكية كانت ولاتزال مطمع القادمين من الشمال ومن الشرق.
وفي شرق المتوسط الآن حريق يعيد ما كان في أزمنة سابقة بعضها غابر وكثير منها قريب. وكان الحريق في الماضي البعيد من غير زيت يؤجج، ولا غاز يزيد إلى قوة النار ويمد لهيبها في الأرض ودخانها في السماء. غير أن شرق المتوسط متصل بجنوبه، بما يشكل جغرافيا سياسية واحدة. وفي الرواية كان المناخ نفس المناخ، والأحوال تشبه الأحوال، بكل ما فيها من القمع والرعب ومن الهواجس والوساوس. وكذلك في الجغرافيا السياسية والتاريخ المتعين عليها، ما جعل المنطقة التي يعيش عليها العالم العربي واحدة بضرورات الأمر حتى بتجاهل وحدة الأمة.
ولنعد إلى وقائع كبيرة في التاريخ، تشهد وتؤكد الاستمرارية فيما يجري الآن وما يلوح في المستقبل، مع اكتشافات مخزون الغاز الهائل والمنذر بحروب قادمة يعلم الله مداها وحجم خرائبها وأثرها المدمر في الإنسان والحياة. وفي هذه البقعة من الأرض نشأت حضارات وازدهرت حين كان القاطنون على الضفة الأخرى من المتوسط يغطون في جهالة قبل أن تتفتق أذهان فلاسفة اليونان وتستغرق في التأمل بالطبيعة ومعجزة الخلق. عرفت مصر حضارة ما انفك العلم يبحث في مكنوناتها ويفك ألغازها وينبهر بما تجلى من عبقرية الإنسان وإدراكه طلاسم الكون وأسرار الوجود. وقامت حضارات الفينيقيين والكنعانيين في الشام، وبابل وأشور في العراق، وقتبان ومعين في اليمن، ونوميديا في ليبيا.
تلك الحضارات العريقة خرجت من الأرض نفسها التي انبعثت فيها ديانات التوحيد الثلاث، وهي ذات الأرض التي مثلت مطمع الغزاة بالأمس واليوم، ولعلها ستظل كذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وفي الوقائع الكبيرة كان الغازي لا يطلب بلداً واحداً منها ويغض الطمع عن محيطها. كذلك عمل الرومان والبيزنطيون على احتلال شرق المتوسط وجنوبه، ومثلهم فعل الصليبيون والعثمانيون من بعدهم. وماذا فعل الإسكندر المقدوني غداة احتلاله مصر غير التوجه شرقاً حتى حدود الهند. ومن الشرق تفتحت شهية الطامعين، وجاءت جحافل الهكسوس والفرس والمغول، وإذا كان قطز قد رد المغول في عين جالوت عن فلسطين، فإن الملك الفارسي «قمبيز» نجح في اجتياح البراري والشطآن إلى مصر وأراد أن يذهب بعيداً إلى ليبيا وما وراءها، غير أن جيشه غرق في رمال الصحراء الغربية.
ذلك في الماضي البعيد، وفي القريب منه احتل نابليون بونابرت مصر وفي مخططه أن يطوي الشام تحت جناحيه، ودشن في حملته منافسة بين امبراطوريتين أوروبيتين على موارد الشرق والعالم العربي، تميزت بالصدام في أولها ثم تحولت إلى تفاهم وتقاسم في مطلع القرن العشرين كرّسته اتفاقية سايكس- بيكو وما تولد عنها من خطة بريطانية لزرع «إسرائيل» سداً فاصلاً بين عرب المشرق والمغرب، بدءاً من وعد بلفور إلى تسهيل الهجرة اليهودية وتسليح وتمويل عصابات خاضت حرباً ضد الفلسطينيين واقتلعتهم من أرضهم. ثم ما جرى بعد ذلك من وقائع ومعارك حضر فيها البريطانيون والفرنسيون والأمريكيون من بعد إلى أن صحا العالم العربي على وقع صراعات مذهبية تطلق ستاراً من الدخان يغطي على مطامع إمبراطوريات تغيرت أسماؤها وتجددت وسائلها ولغتها دون أن تتغير الأهداف والمقاصد.
وأخيراً أفصح الغاز عن وجوده الضخم في شرق المتوسط، وقد يبوح جنوبه بالمستقبل عما هو أكبر وأكثر مدعاة للإغراء. وقد اكتشف «الإسرائيليون» أنهم لم يفوزوا بالأرض المقدسة التي وعدتهم بها التوراة المزورة فقط، وإنما ربحوا كنزاً ثميناً يبشرهم بالرخاء والهناء فوق ركام اللحم الفلسطيني. لكن الغاز أعطى وعداً آخر للبنان، وحين شرع في الإعداد لإبرام عقود استثمار، اشتط قادة الدولة المعادية غضباً وذهبوا إلى الادعاء بحق لا يملكونه.
إن هذا التوتر والغضب الذي أججه الغاز في «تل أبيب» ينذر بقادم مخيف، بحروب لا تنتهي وفواجع ومآتم لا تتوقف.. إنه جحيم الغاز بعد جحيم النفط أعتى وأقوى.