مقالات عامة

الغوطة

يوسف أبو لوز

إذا أقفلت الحرب أبوابها، وانتصر الشعب السوري، تكون «الغوطة» هي الاسم الآخر لدمشق.. هذه «الغوطة».. السردية التراجيدية المفتوحة على الألم والعذاب البشري والعنف.. لا هي بلد ولا مدينة ولا امبراطورية كي تتحمل كل هذا الدمار.. ضاحية أو حي.. «..تقاطع شارعين على جسد..» كما قال محمود درويش في مذبحة صبرا وشاتيلا، مكان الخصب والزرع، بيوت وبشر، وجيران، وياسمين.. رماد في رماد..
«الغوطة».. ماء وشجر وظلال.. يمرّ «بردى» ويلقي التحية على الموتى والبيوت المتكومة فوق الأطفال، كأن الركام يحنو على الطفل، ليصبح البيت شبه بيت. هيكل إسمنتي مفرّغ، فوق هياكل عظمية تمدّ أياديها إلى الحياة.
.. «الغوطة» ليست خطابية هزلية كاذبة من أفلام دريد لحام، ولا هي من الحارة وباب الحارة.. ليست دراما شعرية افتعالية مدبلجة عن التركي والروسي والأمريكي والإيراني والداعشي والحزبي وأقرانهم وأشباههم.. هي مكان يتفحم، وإنسان يذوب.
..«الغوطة».. صورة الطفلة الساقطة من برواز العائلة، والضحية العالقة بين براثن الدببة والثعالب والذئاب الهائجة وهي تشم رائحة الدم، الطاغية على رائحة الياسمين.
..«الغوطة».. القصيدة التي لم يكتبها محمد الماغوط، ولا نزار قباني، ولا ممدوح عدوان، المسرحية التي لم يكتبها سعدالله ونوس، الرواية التي لم يكتبها عبد الرحمن منيف.. السوري، العراقي، الأردني، ولا غالب هلسا الأردني، السوري، المصري.. و«الغوطة» اللوحة التي لم يرسمها مصطفى الحلاج الفلسطيني، السوري، واللوحة التي لم يرسمها فاتح المدرس.
..«الغوطة».. شاهدة، وشهيدة، وثيقة وإثبات وإدانة.. «تسالي» أممي، أو تسلية أممية في مجلس الأمن.. «وقف» إطلاق نار، تداول ديبلوماسي. مشاورات بطيئة تخجل منها السلحفاة.. «فرجة» تلفزيونية عالمية.
«تبليد» يومي لمشاعر الإنسان وذاكرته. تدريب نفسي على تقبل صورة الموت المتجول بحرية مطلقة. تطبيع سلس وناعم مع المشهد الدموي كي يصبح عادياً مثل شرب فنجان قهوة.
..«الغوطة».. مرآة هائلة تتماوج فيها ملايين الوجوه.. كل وجه لا يريد أن يرى الوجه الآخر.. فضيحة، وكذب، واحتقار.. احتقار للإنسان.. لبشريته، لآدميته، لروحه وقلبه وعقله.
..«الغوطة».. صورة أخرى تجاوزت «الخبر العاجل».. نبأ من أنباء الطير والإنسان والحيوان والأشجار، ولا غيوم فوق «الغوطة».. السماء زرقاء وصافية مثل عين الديك الذي لم يعد في حاجة إلى الصياح في الفجر.. لكثرة من ماتوا في الفجر.
..«الغوطة» أطفال تحت الركام.. بالصوت والصورة والغبار والدموع وبالتوقيت الربيعي شرقي دمشق، وبالكاميرا الراكضة فوق كتف الصحفي.. بلا فبركة، وبلا تأليف بصري تلفزيوني.
..«الغوطة».. لا شرقية ولا غربية.. بل، سوريا الضحية، والشعب الضحية.. إنسان سوريا الجميل إلى المجهول والتيه والموت. إنسان الحضارة والثقافة والمعرفة يراد له أن يعود إلى عصر الكهف والظلام لكن السوري طائر عنقاء يحترق، ويخرج حياً جميلاً قوياً مرة ثانية من رماده.
..«الغوطة».. طائر عنقاء سوري كَثر على ريشه الرمادْ.

yabolouz@gmail.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى