الـ «سي آي أيه» والتضليل الإعلامي
فيليب جيرالدي*
في العصر الحديث، لم تعد أنشطة أجهزة الاستخبارات تقتصر على جمع المعلومات حول دول أو حكومات وجيوش معادية، بل اتسع نطاقها بحيث أصبح يشمل التضليل الإعلامي من خلال التأثير في وسائل إعلام رئيسية لنشر أخبار وتعليقات مضللة، والاستخبارات الأمريكية هي الأكثر نشاطاً وتأثيراً في هذا المجال.
عندما تعمل وكالة استخبارات لنشر أنباء زائفة، يسمى ذلك «تضليلاً إعلامياً». وهذا جزء من العمل السري الذي يقوم به بلد ما، من أجل التأثير في الرأي العام في بلدان أخرى.
وخلال الحرب الباردة، كان كل من حلف الأطلسي وحلف وارسو يقوم بعمليات تضليل إعلامي. وفي بعض الحالات، كانت الرعاية الاستخباراتية لهذا النشاط مرئية بوضوح، مثلما كان يحدث عندما كانت إذاعة «أوروبا الحرة» وإذاعة موسكو تتبادلان التهكم على مدى سوء الحياة اليومية في بلدان المعسكر الآخر.
ولكن في حالات أخرى، كانت الرعاية الاستخباراتية للتضليل الإعلامي تعمل بصورة سرية من خلال دس تقارير وتعليقات زائفة في وسائل إعلام بهدف التأثير في تصورات الرأي العام لما كان يحدث في العالم. وتقدم حرب فيتنام مثالاً بارزاً على هذا العمل السري، حيث كانت تقارير موجهة تعدها الحكومة الأمريكية وحلفاؤها، تقدم رواية عن نضال من أجل الديمقراطية ضد الديكتاتورية الشيوعية، في حين كانت منظومة الدول الشيوعية تبث رواية مضادة عن الاضطهاد الاستعماري والرأسمالي للشعوب المناضلة من أجل حريتها.
ووكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية «سي آي أيه» ورثت مهمة تنفيذ عمليات سرية من جهاز الاستخبارات الأمريكي السابق الذي كان يسمى «مكتب الخدمات الاستراتيجية»، والذي حقق نجاحاً هائلاً في إدارة عمليات تضليل إعلامي خلال الحرب العالمية الثانية. ولكن منذ البداية، عقب انتهاء الحرب مباشرة، كانت هناك معارضة على نطاق واسع لمثل هذه العمليات، لأنها كانت مكلفة جداً، ولأنها كان يمكن أن تتسبب بأضرار هائلة في حال افتضاح أمرها.
وفي أوروبا الغربية، ردت أحزاب شيوعية كانت تتمتع بشعبية وقوة كبيرتين بحملات إعلامية واسعة ضد العمل السري لوكالة ال «سي آي أيه». ومع ذلك، تمكنت هذه الوكالة من التلاعب بالأنباء والتعليقات، ودس تقارير تنتقد الاتحاد السوفييتي وحلفاءه. ونفذت الـ «سي آي أيه» برامج ضخمة لتمويل مجلات ونشر كتب، وكذلك لتجنيد صحفيين ينشرون أنباء وتعليقات حسب الطلب.
وفي أوقات لاحقة، جرت تحقيقات رسمية وخاصة في آليات التمويل السري التي طبقتها الـ «سي آي أيه»، بما فيها تحقيق أجراه الكونجرس الأمريكي حول «الحرية الثقافية» شمل كيف كانت وكالة الاستخبارات الأمريكية تمول كتباً وصحفيين، وكذلك صحفاً ومجلات في أوروبا. وحيث إن حرباً إعلامية كانت تحتدم ضد الشيوعية، لم تجد الـ «سي آي أيه» صعوبات كبيرة في تجنيد أنصار من صحفيين ومعلقين ورؤساء تحرير، وتمويل صحف ومجلات. وقد عرف بعض كبار رؤساء التحرير، أو اشتبهوا بمصدر تمويلات مؤسساتهم الإعلامية، ولكن معظمهم لم يطرحوا أي أسئلة، لأنهم كانوا يعرفون – آنذاك كما اليوم – أن مالكي هذه المؤسسات يحتاجون إلى دعم مالي. وكان هناك أيضاً رؤساء تحرير ومعلقون وكتاب لم يعرفواً شيئاً عن التمويلات السرية، ومع ذلك كانوا يكتبون ما كتبوا عن قناعة سياسية شخصية.
وعلى مر السنين، نشر كمُّ كبير من كتب كانت تفضح عمليات أجهزة الاستخبارات، خصوصاً منها الـ «سي آي أيه»، لتوجيه وسائل إعلامية تبعاً لمواقف سياسية معينة. وكان ذلك يحدث في أوروبا، وأنحاء من آسيا وأمريكا اللاتينية وأماكن أخرى عبر العالم.
ونحن لا نزال اليوم في عصر التضليل الإعلامي، حيث الـ «سي آي أيه» تبقى الأكثر نشاطاً ونفوذاً. وهذا التضليل يهدف، كما كانت حاله دائماً، إلى محاولة التأثير في الرأي العام، خصوصاً خلال أوضاع أزمات سياسية أو حروب.
*ضابط سابق في الاستخبارات العسكرية الأمريكية عمل أيضاً اختصاصياً في مكافحة الإرهاب لدى «سي آي أيه». موقع «معهد رون بول للسلام والازدهار»