غير مصنفة

القدس ليست مجرد مدينة

محمود الريماوي

سوف يكون خياراً خاطئاً أن تبرهن الولايات المتحدة على جديتها في تسهيل التوصل إلى إبرام تسوية، عبر اعترافها بالقدس المحتلة عاصمة للدولة العبرية. فالمجتمع الدولي برمته والأمم المتحدة وقراراتها، لا تعترف بما يزمع البيت الأبيض الاعتراف به يوم الأربعاء المقبل كما أجمعت تقارير إخبارية شتى. بأن الرؤساء الأمريكيين السابقين رغم انحيازهم لتل أبيب فإنهم لم يقدموا على هذه الخطوة التي تتنافى مع الشرعية الدولية وأحكام القانون الدولي، والحق الثابت لأبناء القدس في مدينتهم. ولا يخال المرء أن ما سميت ب«صفقة القرن» يمكن أن تقترن وتبدأ بارتكاب خطأ فادح كهذا يستفز مشاعر ملايين العرب والفلسطينيين إلى حد بعيد، ويمنحهم سبباً إضافياً لمزيد من التشكك في الموقف الأمريكي حيال قضية السلام التي طال الأمد عليها، عقداً بعد عقد، دون أن تجد حلا لها، ودون أن تنتصر واشنطن للشرعية الدولية أو تلزم «تل أبيب» بالكف عن مشاريعها التوسعية والإنكار العنصري للحقوق الثابتة للآخرين على أرضهم.
وبخبرة سنوات طويلة من الصراع المديد ومشاريع التسوية المتعثرة، فإن الإقدام على هذه الخطوة سوف يحفز الطرف القائم على الاحتلال كي يتشبث برفضه للسلام، والأسوأ من ذلك أنه يهب القدس لهذا الطرف مكافأة على احتلاله، ما يجعل أي تسوية بعدئذ غير ذات معنى وفاقدة لماهيتها وجوهرها، ما دام سوف يتم مسبقاً اقتطاع جزء أساسي من الأرض مدار التسوية وإهدائه للطرف المحتل، خلافاً لأي منطق قانوني أو أخلاقي أو سياسي أو إنساني. أما القول بأن التسليم بالقدس عاصمة للطرف المحتل، يراد منه تفادي نقل السفارة الأمريكية فهو تحليل واهٍ، ذلك لأن البرهان الأوضح والأكثر منطقية هو الامتناع عن مجاراة الطرف المحتل باعتبار القدس عاصمة له، وبما يضمن بعدئذ عدم نقل السفارة الأمريكية إلى المدينة المقدسة. أما التسليم بمزاعم الاحتلال حول القدس وكونها عاصمة له فذلك يفتح الباب حكماً لنقل السفارة إلى هذه المدينة العربية. فالخطأ يقود إلى خطأ آخر، والأمر الصحيح هو تفادي ارتكاب الأخطاء، وليس المفاضلة بين خطأ وآخر..
والمأمول في ما تبقى من وقت ضئيل أن تراجع الإدارة الأمريكية الموقف من جميع جوانبه، وتمتنع عن اتخاذ مواقف دراماتيكية شديدة التهور، وتتجنب القيام بخطوة طائشة كهذه لن يكون من شأنها سوى«تأجيج العالم العربي كله»، على ما قاله وزير الخارجية السعودية عادل الجبير في مؤتمر حوارات متوسطية في روما قبل أيام، وبما يشكل ضربة للعلاقات العربية الأمريكية من أحد طرفي هذه العلاقة، وفي ظرف حساس تتجه فيه الأنظار إلى المضي في معركة مكافحة الإرهاب بعدما تحققت إنجازات جيدة على هذا الطريق، وإلى مناهضة امتلاك أسلحة ومنشآت نووية لهذا البلد أو ذاك، وإلى السعي الحثيث لإطفاء توترات البؤر الإقليمية.
من عادة الإطفائي سكب الماء على مصادر النيران، وليس صب الزيت أو الوقود على الحريق، ولو فعل ذلك فإنه سيكون أي شيء آخر سوى أن يكون إطفائياً، ولا يحدث مثل هذا إلا في برامج الكوميديا السوداء وليس على أرض الواقع. ومشروع التسوية الشرق أوسطية يحتاج إلى دفعة للأمام، وليس إلى طعنة قاتلة تتجه إلى هذا المشروع المغدور، وذلك بفعل رفض الاحتلال الانصياع إلى القرارات الدولية، وإلى الإقرار بحق أصحاب الأرض في أرضهم، وفي حياة حرة مستقلة على أرضهم الوطنية المحتلة منذ العام 1967.
لقد وفرت مبادرة السلام العربية فرصة للسلام الشامل في المنطقة منذ نحو عقدين من الزمن، لكن الاحتلال «الإسرائيلي» يتمسك بأطماعه التوسعية، رافضاً لهذه الفرصة التي توفر له الأمن والسلام وتلبي الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية. كما رفض الاحتلال المضي في تنفيذ اتفاق أوسلو لعام 1993 رغم كل ما يحققه له هذا الاتفاق من مكاسب، ويعلم الجميع أي مصير انتهى إليه من وقّع على الاتفاق وهما اسحق رابين وياسر عرفات.
إن الإقدام على هذه الخطوة إذا حدثت ونأمل أن لا تقع، لن يكون قابلاً للإصلاح، ولا يمكن التغطية عليه بتقديم «إكرامية» ترضية للطرف الفلسطيني. سوف يعني ذلك فقط المزيد من التخبط وشحن الصراع بمزيد من عوامل التوتر. فالقدس ليست مجرد مدينة، فهي عاصمة روحية لمئات الملايين من العرب ومن المسيحيين والمسلمين في العالم، وهي عاصمة وطنية وسياسية للفلسطينيين، وملتقى أشواقهم وقلب وطنهم وموئل أرواحهم، ومن الغرابة بمكان إدارة الظهر لمشاعر من يمثلون زهاء نصف البشرية، وذلك لمجرد الرغبة في مكافأة المعتدي، وإبداء الإعجاب بمن يحتكم إلى السطوة المسلحة كحال الاحتلال «الإسرائيلي» الغاشم.

mdrimawi@yahoo.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى