مقالات عامة

القراءة.. إصغاء للصمت لا الصوت

سوسن دهنيم

أن نقرأ، يعني أن ندرك. أن نحاول تخليص محيطنا وعالمنا مما يؤخر إنجاز نوعنا، مما يضعنا في خانة الأشياء، مما ينأى بنا عن أن نكون عالة على مدارك ووعي إنجاز الآخر.
القراءة أن نخطط لغدنا، وأن نتجاوز حاضرنا، وألا نعوّل ونفتن ونتوحّد ونجد في ماضينا خلاصنا النهائي ومرجعاً نهائياً لا قبل ولا بعد له. القراءة ألا نحدّ وعينا بالخاص من الحضور، على رغم أهميته، وأن يمتد ذلك الوعي إلى الحضور العام. أن نتجاوز شبحنا إلى واقعنا، وهمّنا إلى مواجهتنا لأعباء الحياة وتحدياتها.
أن نقرأ يعني أن ننسلخ من الطمأنينة الزائفة، ونتجاوز العروج من منامنا إلى العروج في حركة الحياة نفسها، بمدها بمزيد من الطاقة والدفع والتواصل والاتفاق، وأيضاً الاحتجاج على انحرافها.
أن نقرأ يعني ألاّ نكون أسرى أطر ومفاهيم معلّبة وجاهزة تقدّم إلينا كما تقدّم أي وجبة جاهزة تقي انهيار أبداننا وحصانتها، ولكنها لا تقينا انهيار وعينا ومداركنا ورؤيتنا وخيارنا في التعاطي مع ليل العالم ونهاره.
أن نقرأ يعني أن تكون لدينا القدرة على أن نحدث تأثيراً بما قرأنا، يطال البشر الذين نحن جزء من نوعهم، ولا يتوقف الأمر عند ذلك، بل يمتد ليشمل التأثير في الزمان والمكان وما يحيط بهما، قدرة منا على الإقناع، عبر تلك القراءة، للدخول في المنجز الذي نحن بصدده وفي الطريق إلى تمثله وتحققه.
أن نقرأ يعني أن نصغي إلى صمتنا أكثر من الإصغاء إلى أصواتنا، وخصوصاً الصوت المندفع من فراغ.
أن نصغي إلى صمتنا بمعنى إصغائنا إلى الصوت الذي يأتينا واثقاً من خياره، يمارس وقته قبل أن يجهر في هيئة صوت يلمّح للضرورة ويحرّض على الفعل المنتج، ويدفعنا دفعاً إلى الدخول في حركية الحياة بكل مرّها وحلوها، نجاحاتها وخيباتها، تصالحاتها وصداماتها.
أن نقرأ يعني أن نمتلك عيناً إضافية ورؤية فائضة وبصيرة تخترق الحجب. وأن نمتلك روحاً إضافية لا تموت بعد رحيلنا. تظل قادرة على مشاغبة البليد من كل ذلك والعمل على هزّ وعيه.
أن نقرأ يعني أن نعيد غربلة رؤيتنا إلى العالم كما يجب؛ بحثاً عن المقلق لا المطمئن، الرجرجة لا الخمول، الذهاب لا المكوث، الاحتجاج لا البصم على سواد العالم وبياضه.
الأمة الوحيدة في تاريخ الرسالات وتاريخ الجنس البشري التي بدأت الدعوة إليها بالقراءة، هل تنتهي اليوم إلى الكفر بتلك القيمة وازدرائها، عن وعي أو من دون وعي؟

sawsanon@gmail.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى