قضايا ودراسات

القفز فوق البديهيات في ليبيا!

سليمان جودة

قفزت فرنسا فوق البديهيات وهي تتعامل مع مأساة ليبيا، في مايو من هذا العام، فبقيت المأساة على حالها، وجاءت إيطاليا بدورها، لتقفز فوق البديهيات نفسها خلال المؤتمر الذي انعقد في مدينة باليرمو الإيطالية مؤخراً، لتكون النتيجة بقاء المأساة على حالها، إلى أن يُقيض الله لها عاصمة من عواصم القوى الكبرى في العالم فتتعرض لجوهرها دون القفز على البديهيات، وبغير تجاهل الحقائق التي تقع في القلب منها.
ففي مايو الماضي كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، قد دعا إلى مؤتمر في عاصمة بلاده، راغباً في الوصول إلى حل للموضوع الليبي، وكان المدعوون إلى المؤتمر أربعة: المشير خليفة حفتر قائد الجيش الوطني الليبي، وفائز السراج، رئيس حكومة الوفاق الوطني، وعقيلة صالح، رئيس مجلس النواب، ثم خالد المشري، رئيس مجلس الدولة الأعلى.. وكان الهدف أن يجلسوا حول مائدة واحدة، ويتفقوا، أو يتوافقوا إذا كان الاتفاق صعباً، وألاَّ يخرجوا من هناك إلا وفي أيديهم اتفاق من نوع ما.
وعندما خرج الخمسة إلى الإعلام، تكلم ماكرون نيابة عنهم، وقال إنهم اتفقوا على إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية في ليبيا، وإن ذلك سيكون في العاشر من ديسمبر المقبل. ولم ينكر الأربعة أنهم اتفقوا على انتخابات تجرى، لولا أن لسان حالهم كان يقول إن ما يشير إليه ساكن قصر الإليزيه صحيح، ولكنه خطوة ثانية لا خطوة أولى؛ لأن بلداً بهذا الوضع الذي تبدو عليه الأراضي الليبية، أمنياً وسياسياً، لا يمكن أن يكون مؤهلاً لانتخابات تُجرى فيه.
وألف باء الاستقرار السياسي تقول إنه غير ممكن، دون استقرار أمني يسبقه ويشق أمامه الطريق، وإن هذا الاستقرار الأخير ليس في الإمكان، ما لم تكن في البلد قوة قادرة على فرضه، وعلى التأسيس له قبل فرضه، وعلى وضع قواعده قبل كل شيء. وفي بلد مر بما مرت به ليبيا، على مدى سبع سنوات مضت، لا توجد قوة قادرة على إتاحة الفرصة لمقتضيات الاستقرار الأمني على الأرض، سوى الجيش الوطني.
ولابد أن الجيش لن ينهض بهذه المهمة بالعصا، ولا بالنبوت، ولكنه سينهض بها بسلاح عصري موجود في يد عناصره، ومتاح في مخازنه، ومتوافر تحت يده!
هذه بديهية أولى، لا ثانية ولا ثالثة، ولا بالطبع عاشرة، والقفز فوقها هو قفز فوق الحقيقة، وفوق الحل، وفوق فرصة البلد في الحفاظ على أمنه وعلى حياة مواطنيه.
لذلك.. لم يكن مفاجئاً ولا مدهشاً؛ بل كان متوقعاً، أن يعترف الأربعة المجتمعون بأنهم فعلاً اتفقوا على إجراء انتخابات، وأنهم حين طلب منهم ماكرون التوقيع على التزام بذلك تحفظوا، ليس لأنهم وفي المقدمة منهم حفتر يرفضون الانتخابات، ولكن لأنها صعبة المنال في ضوء الظرف الليبي الراهن، الذي يفتقد الأمن في حدوده الدنيا، ويحتاج إلى جيش يُعيده إلى حدوده المعقولة.
ولن يكون الجيش الوطني الليبي قادراً على إعادة الأمن، ما لم يرفع مجلس الأمن حظر توريد السلاح المفروض عليه؛ ولذلك عادت القضية الليبية من باريس كما ذهبت، وهو ما جرى أيضاً يوم ذهبت إلى باليرمو؛ عاصمة إقليم صقلية في إيطاليا.
وعندما أحس المشير حفتر مبكراً بأن البديهية الأولى التي جرى القفز فوقها في باريس، ليست على جدول أعمال المؤتمر؛ فإنه اعتذر عن عدم الحضور، فلما تزايدت عليه الضغوط حضر بشروطه، والتقى بالذين يرى أنهم في صف قضية بلده فعلاً، وامتنع عن لقاء الذين هم دون ذلك، فلم يقبل الجلوس معهم في قاعة المؤتمر.
وليس أغرب مما فعله مجلس الأمن قبل أيام من لقاء باليرمو، عندما اجتمع وقرر تمديد أمد العقوبات المفروضة على ليبيا إلى العشرين من فبراير من العام بعد المقبل، ولم يصرح أحد في المجلس بشيء يوضح ما إذا كانت هذه العقوبات الممدودة تشمل فيما تشمل تمديد حظر بيع السلاح للجيش الوطني الليبي، أم إنها لا تشمله. والغالب أنها تشمله، وإلا لكان قد قيل شيء عن الموضوع، وقد كان غسان سلامة المبعوث الأممي إلى ليبيا، حاضراً في باليرمو، ولم يكن مطلوباً منه سوى إيضاح هذه المسألة ولم يوضحها، ولا حتى حام حولها من بعيد!
غياب البديهية الأولى عن أي لقاء دولي يخص ليبيا في المستقبل، سيجعل مصيره هو ذاته مصير تجمع باليرمو، وهو ذاته مصير اجتماع باريس.

soliman.gouda@gmail.com

زر الذهاب إلى الأعلى