«الكتبجيّون».. أو عرق الخيول
يوسف أبولوز
لعل الوسط الثقافي المصري هو أول من اشتق كلمة «الكتبجية» من الكتابة أو من صنعة الكتابة.. والكتابة، بالفعل، صنعة أو صناعة بدع فيها جدّ الكتبجية الأول الجاحظ، صاحب الصنعة الورقية، ومن ظهره ولد الوراقون والنساخون، وأصحاب الورق والأحبار والقلم.
أول كتبجية (أي الكتّاب) كنا نراهم في طفولتنا في الستينات والسبعينات من القرن العشرين ينتشرون أمام المحاكم ودوائر الأحوال المدنية لاستخراج شهادة ميلاد أو شهادة تقدير سن، وهذه الشهادة الأخيرة تصلح لأن تكون بذرة رواية، فقد كان «الكتبجي» ينظر إلى وجه الفتى أو وجه الفتاة، فيقدر أنه أو أنها ولدت في سنة «الثلجة»، أي السنة التي هطل فيها الثلج بغزارة، أو في سنة «القيظ» أي اشتداد الحرّ، أو سنة الجراد، أي السنة التي غزا فيها الجراد البلاد وأكل الأخضر واليابس. وبحسب تقدير الكتبجي يبدأ عمرك من هناك.
يعرف عمر الخيول وبعض الماشية من الماعز من خلال أسنانها، ويعرف جمال المرأة الحقيقي عندما تنهض من النوم، ولذلك كانت بعض النسوة الخطابات اللواتي يبحثن عن عروس جميلة يذهبن في الصباح الباكر إلى إحدى العائلات.. قبل أن تنهض البنت من النوم.. أما أسنانها فلا تحتاج إلى فحص.. يكفي أن تبتسم مثلاً حتى يظهر صف اللؤلؤ الصغير في فمها الشاب.. وهي أيضاً لا تحتاج إلى كتبجي. فها هي شابة وحلوة من عِرق الحبق.
كنّا نضع اعتبارية اجتماعية عالية لـ«الكتبجي»، فهو الرجل الذي يقدر أعمارنا.. كما لو أنه هو الذي يعطينا هذه الأعمار.. فإما أن يكبّرنا عاماً أو عامين، وإما أن يصغّرنا عامين أو ثلاثة،.. فلا نحن خيول، ولا نحن ماعز.
الكتبجي، أيضاً، نعوّل عليه في سرعة استخراج جواز السفر، وجواز السفر يعني رؤية العالم.. يعني ركوب الطائرة أو الباخرة أو القطار، والاستغناء تماماً عن حاجتنا اليومية للحصان الذي يطلق صهيلاً أجمل من خيوط الموسيقى.
الكتبجي، آنذاك، يعني المتعلم.. وفي بعض أرياف بلاد الشام يسمى «الخطيب». كل ما نذكره عنه الآن أنه في الأربعين من عمره. على رأسه شماغ أحمر أو غترة مرقطة بالأبيض والأسود. خطه جميل، ويكتب بالحبر الأسود بقلم الباركر أو الشيفر، وتحت طاولته الخشبية الصغيرة زوادته: خبز، ماء، خيار، بندورة وبيض مسلوق.
أحببنا «الكتبجية»، فهم يكتبون أو بالأحرى يرسمون أسماءنا الثلاثية:.. الابن فالأب فالجدّ، وأحياناً جدّ الجدّ تأكيداً على مكانة اجتماعية عريقة.
.. على نحو ما كبرت وتكاثرت عائلة الكتبجي. لم يعد يقدّر سن الحصان ولا سن الفتاة.. لقد تحوّل إلى روائي. إنه الكاتب السردي الجميل اليوم الذي لا يحتاج إلى الخيار والبيض المسلوق. سيأكل في أرقى مطاعم العالم إذا كتب رواية توصله إلى نوبل.. ومع ذلك، سيظل «كتبجياً» جدّه الجاحظ، وريشته دائماً مبللة بالحبر.. بلل مشتق من الدموع أو الماء أو العرق الذي يرشح من الخيول لكثرة ما تركض وتصهل.. وتكتب.