مقالات عامة

الماغوط .. عطشان يا دمشق

يوسف أبو لوز

يُقرأ بحذر وتأنٍ ومحبة أيضاً الملف الذي خصصته مجلة شؤون أدبية «.. عدد خريف 2017» الصادرة عن اتحاد كتّاب وأدباء الإمارات حول الشاعر محمد الماغوط بعنوان «.. تغريد خارج السرب..»، وفي حقيقة هذا الشاعر الذي أوجد ما يشبه «الرنين المغناطيسي الشعري». في القصيدة العربية الستينية والسبعينية إنه لم يكن يغرّد خارج السرب إذا كان المقصود بـ«السرب» شعراء جيله أو مرحلته مثل يوسف الخال، وأنسي الحاج، وأدونيس، وغيرهم من شعراء الانقلاب على التفعيلة أو احترامها في حدود معينة، والانسحاب البطيء والمتدرج من عمود الخليل بن أحمد الفراهيدي، وهؤلاء بهذا المعنى كانوا سرباً واحداً، ولم يكن الماغوط يغرّد خارجه، بل، هو أصلاً لم يعرف طيلة حياته معنى التغريد، وكان أقرب إلى الدموع منه إلى الضحك.. كان خارج السرب بمعنى الحشر أو الانحشار في حزب أو أيديولوجيا أو مؤسسة سياسية، ويروى عنه أنه قال ذات يوم إنه كان يذهب من وقت إلى آخر إلى مكاتب أحد الأحزاب العربية اليسارية؛ لأنه كان مقر الحزب مدفأة وثلاجة فيها خبز وجبنة.. فيأكل وينام.
لم يكن الماغوط خارج السرب بمعنى الكتابة الجديدة؛ بل كانت قصيدته من صنيع ذاته وشعوره الدائم بأنه خائف ومغبون وحزين، وليس صدفة أن تكون إحدى مجموعاته الشعرية تحمل عنوان «حزن تحت القمر»، وهو وصل به الجوع إلى الكرامة البشرية إلى حدّ القول في قصيدته «أمير من المطر وحاشيته من الغبار»:
«ينظر إلى أمّه الطبيعة
قلت لها: عطشان يا دمشق
قالت: اشرب دموعك
قلت لها: جوعان يا دمشق
قالت: كُل حذائي.
يذكر د. مدحت الجيار في الملف حول الماغوط أنه «من أوائل الذين كتبوا الشعر الحديث، مثل قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر..»، في حين أن الماغوط لم يكتب طيلة حياته قصيدة تفعيلة ولم يعرف أصلاً التفعيلة، وهو كتب شعراً أحس به بفطرية شديدة العفوية والتلقائية:
يقول: «.. أنا طائر من الريف..//.. الكلمة عندي إوزة بيضاء..//.. والأغنية بستان من الفستق الأخضر..».. وأبرز بل إن أساتذة وعرابي ومنظرّي قصيدة النثر مثل عبدالقادر الجنابي لا يعتبرون قصيدة الماغوط قصيدة نثر.
استعادة الماغوط بمناسبة، وبغير مناسبة سواء في كتابة أو في ملف تمثل قوة نصّ هذا الشاعر، وقوة حضوره حتى اليوم على رغم أنه لم يغرق في يوم من الأيام في التنظير والاستعراض والمبالغات؛ بل كان يعيش الحياة في ذروة شغف الإنسان بالحياة.. بصدق، أولاً، مع ذاته، وثانياً، بصدق استثنائي مع الشعر.
أول من نبّه إلى موت بردى.. كنهر ودلالة وإحالات سياسية وفكرية وثقافية كان محمد الماغوط، ومن أوائل من جعلوا للغة ملمساً ورائحة وطعماً كان محمد الماغوط، و«شؤون أدبية». إذ تستعيده بهذه الكثافة الوجدانية العالية، إنما تستعيد شاعراً له جملة فعلية في الكتابة العربية الحديثة، وتقف هذه الجملة على روافع ثلاث مهمة: النصّ، والمسرح، والمقالة.

yabolouz@gmail.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى