المثل الأعلى.. إفريقيا
د. عمر عبدالعزيز
أصبحت أنظمة إفريقيا في الوسط والشرق والجنوب، تقدم المثل الأعلى في السلوك السياسي الحميد، والتخلي عن عهد الدكتاتوريات الشمولية، وثقافة التعامل مع الشعوب باعتبارها قطيعاً يؤمر فيطيع، يهان ويتماهى مع جلاده، يكبّل فيشكر سجانيه الذين اكتفوا بحبسه لا قتله، بل يصل الأمر بالبعض إلى استرضاع روح العبودية من أثداء الأمهات اللائي تآلفن مع الخوف والذل.
خلال السنوات القليلة الماضية شاهدنا إشارة انتصار إفريقية للمستقبل، وتوسيع ملعب المشاركة والقبول بالتداول السلمي للسلطة، ومن محاسن القدر أن تأتي تلك الإشارة من بلد عربي إفريقي، طالما طحنته النعرات الفاشية والدكتاتورية، ودفع ثمناً باهظاً على مدى عقود الضلالات.
أقصد الصومال الشقيق الذي تداول رؤساؤه المنتخبون برلمانياً، السلطة على مدى عقدين من الزمن، وفاضت الحكمة بثمرة مع انتخاب الرئيس الحالي محمد فرماجو، الذي لم يكن يُتصور أن يتم اختياره رئيساً بالتراضي التام، وهو ابن المدينة المحسوب على الحداثة من جهة، كما على الاستيهامات القبلية لكونه من قبائل الداروود الصومالية، ولقد رأينا الحال نفسه في رواندا، التي شهدت إبادة جماعية ضد قبيلة التوتسي خلال تسعينات القرن الماضي، لكن قانون العدالة الانتقالية والتسامح والصفح لم يُنه مشكلة التقاتل بين الهوتو والتوتسي فحسب؛ بل جاء برئيس من قبائل التوتسي التي تعرضت لإبادة بشعة من قبل الهوتو، وبدت تلك الإشارة ذات مغزى عميق، حيث تعالت رواندا على جراحاتها، وفتحت الدرب لانسياب ناعم للمواطنة المتساوية، والتداول السلمي للسلطة، ونسيان الماضي المؤلم.
ويستمر هذا التقليد الحميد في بقية أجزاء إفريقيا السوداء، التي طالما اعتبرناها في ذيل التطور، والشاهد الماثل اليوم نراه في الاستقالتين الشجاعتين المقدمتين من رئيس جمهورية جنوب إفريقيا جاكوب زوما، ورئيس وزراء إثيوبيا هايل مريام دي سيلين، فالرئيس السابق لجنوب إفريقيا قدم استقالته تنازلاً عند رغبة الشعب وحزبه، وقال إنه يتخلى عن السلطة طالما كان هذا الأمر لصالح بلاده، وقد بدت كلمته الضافية عامرة بالشجاعة المقرونة باعتراف ضمني، وتقديم لاستحقاق الانسحاب من أجل مصلحة الوطن.
حدث الأمر نفسه في إثيوبيا، التي تشهد نمواً اقتصادياً مميزاً خلال السنوات الأخيرة، فقد قدم رئيس الوزراء استقالته تنازلاً عند رغبة الجماهير وتلافياً للفتنة الداخلية، وبهذا السلوك الشجاع حافظ على مكاسب الدولة الاتحادية الإثيوبية، التي اتسعت لشعوبها وقومياتها، كما أصبحت حاضنة مثالية للاقتصاديات الإقليمية، وهيأت البيئة الإدارية والاستثمارية للشركات الدولية.
نسترجع هذه الشواهد للإشارة إلى ما حاق ويحيق بالعرب نتيجة إصرار القيادات الفاشلة على البقاء في كراسي الحكم حتى الموت، والرفض المنهجي لمقتضيات المستقبل واستحقاقات الحاضر، وإدارة الدولة بعقلية المراعي القبائلية، والتمسك المتعصب بمألوفات الماضي البائس، مما نرى شواهده المرعبة في اليمن وليبيا وسوريا والعراق وغيرها، على سبيل المثال لا الحصر.
المفجع في سلوك الإقامة السياسية عند مرابع وخيام بني عبس وذبيان، يكمن في أن هذه الثقافة تقيم حاجزاً منيعاً ضد النماء والتطور، فقد تأكد بالدليل القاطع أن العرب المستأنسين بالمركزيات الفجة، وآلية الدولة البسيطة القروسطية، والتغريد خارج السرب الطبيعي للبشرية السوية، لا يمكنهم بحال من الأحوال تمثل القابليات الكبيرة للنمو والتطور، بل التنافي والانحدار المجاني، وما يرافقهما من قتل وتدمير. فهل نتعلم من الأفارقة الذين شبوا عن الطوق، وأثبتوا أنهم أعلى منا مكانة ومرتبة، بدليل ما أسلفنا الإشارة إليه من نماذج ساطعة البيان؟
قديماً قال علماء التاريخ والاجتماع إن وعي الناس لا يتغير إلا بتغير وجودهم الاجتماعي الواقعي، ومن هنا ندرك المغزى العميق لمعنى المتغير الذي لا درب له دونما تغيير في المفاهيم والآليات القائمة في الحكم، وفي العالم الواسع من التجارب ما يفيد العرب. وإذا كنّا قد أومأنا إلى الحالة الإفريقية، فإن تجارب آسيا وأمريكا اللاتينية تقدم كثيراً من الأمثلة الرائعة.
omaraziz105@gmail.com