المستشارة ذات الإشعاع
محمود الريماوي
في التاسع والعشرين من أكتوبر الماضي أعربت المستشارة (لقب رسمي يضاهي لقب رئيس وزراء) الألمانية أنجيلا ميركل عن نيتها اعتزال العمل السياسي والحزبي في العام 2021. وقد جاء هذا الإعلان من طرفها بعد الفشل الذي مُني به الحزب الديمقراطي المسيحي الذي تقوده في الانتخابات المحلية لبعض المقاطعات الألمانية. وبالذات الخسائر الكبيرة لحزبها في الانتخابات المحلية بولاية هيسن غربي البلاد. بالإضافة لخسائر لحقت بحليفها الشقيق الأيديولوجي: الاتحاد المسيحي الاجتماعي في منطقة بافاريا.
ما زال هناك متسع من الوقت تمضيه ميركل في موقعها، وحيث تعتبر السيدة الأولى التي تتولى المنصب السياسي الأرفع في بلاد الراين، منذ العام 2005، وقبل ذلك بخمس سنوات اختيرت لرئاسة الحزب الديمقراطي المسيحي. غير أن مظاهر الانسحاب سوف ترخي بظلالها على أداء هذه السيدة، التي نجحت في منافسة الاشتراكيين الديمقراطيين الذين حكموا بلادها طويلاً، ثم جرى قدر من التقارب بينهما انعكس على الائتلاف الحكومي بينهما، وذلك في ظل صعود اليمين الشعبوي ممثلاً على الخصوص بحزب «البديل من أجل ألمانيا»، ذي الخلفية العنصرية..
ويسترعي الانتباه أن التيارات المتطرفة تزدهر على الخصوص في شرقي ألمانيا، حيث انحدرت ميركل من هناك، وقد أسهم سقوط جدران برلين وتوحيد شطري ألمانيا في العام 1990 في صعود ميركل السياسي، فيما كانت في مقتبل شبابها، وهي الابنة لقس تطمح أن تعمل معلّمة. وفي واقع الأمر أنه رغم انتسابها إلى حزب يميني أو إلى يمين الوسط، إلا أنها واجهت منافسة من حليفها الحزب المسيحي الآخر، الاجتماعي، الذي يقترب من أقصى اليمين، وصولاً إلى صعود اليمين الشعبوي الذي رأى فيها وما زال عدواً له.. ولألمانيا!. هذا علاوة على المنافسة بين حزبها وبين الاشتراكيين الديمقراطيين الذين حكموا ألمانيا طويلاً..
تعتبر ميركل ذات توجه أوروبي، والمقصود أنها تراهن على القوة الاقتصادية والعسكرية والثقافية للاتحاد القاري الذي يضم 29 دولة، وقد أيدت مؤخراً دعوة الرئيس الفرنسي مانويل ماكرون لإنشاء جيش أوروبي.. جيش يحمي القارة الأوروبية كلها، وهو ما أثار امتعاض الإدارة الأمريكية، حيث تم اعتبار هذا التوجه بأنه ينطوي على فكرة انسحاب من حلف الناتو، وهو ما نفته ميركل وماكرون.
أما المسألة التي أدت إلى تراجع شعبيتها، فهي موقفها المنفتح على استقبال اللاجئين، وموقفها المتسامح حيال الأديان.
وفي ردّها على المطالبة بوضع سياج يمنع قدوم المهاجرين، قالت: إنها عاشت في الشطر الشرقي من بلادها محاصرة ب«سياج» عن العالم الخارجي، ولن تكرر ذلك في ألمانيا الموحدة.
ورغم أنها عدّلت في قوانين الهجرة، بحيث يتم ضبط هذه الموجة بصورة أكبر، إلا أن مناوئيها حافظوا على نبرتهم العدائية ضدها وضد الإسلام، وقد وجدوا في الكراهية ذخيرة أيديولوجية مواتية لتعبئة الرأي العام، وخاصة الشرائح الضعيفة اجتماعياً الذين تم تأليبهم ضدها، وأصحاب النزعات القومية المتعصبة. ومع ما نالته من عداء لدى فئات متطرفة في بلادها، فقد تبوأت ميركل مكانة مرموقة في نفوس شطر واسع من الألمان، وكذلك في ملايين البشر، باعتبارها أنموذجاً للتسامح، ومد يد العون للمنكوبين ممن قذفتهم الحروب وراء الحدود.
كما نالت ميركل مكانة معتبرة في القارة الأوروبية، كونها من أبرز المدافعين عن فكرة التوحد الأوروبي وأهمية بلورة كيان قاري متماسك ومزدهر، ككتلة كبرى إلى جانب الكتلة الأمريكية والصينية والروسية. وهي بذلك ليست من المؤمنين بمقولة «القارة العجوز».
وقد نالت هذه المكانة، رغم أنها ليست خطيبة بليغة، ولا تنتمي إلى معسكر «تقدمي» حسب التصنيفات الأيديولوجية، وليست ذات حضور كاريزمي في وسائل الإعلام، وجل ما في الأمر أنها تتمتع بدرجة عالية من النزاهة ومن احترام التنوع السياسي والفكري في بلادها، كما بين البشر في سائر أرجاء المعمورة، ومن حسن الطالع أنها ستبقى لعامين مقبلين على رأس منصبها، مسهمة بذلك في تحقيق قدر من التوازن في السياسات الدولية الجامحة.
mdrimawi@yahoo.com