المِش مهندس
بقلم: أحمد الطوبجي
” قوم يا محمد شوف اللي وراك، كفاية لعب كورة مش هتنفعك بحاجة”
جملة تتردد كثيراً بمنازلنا، يرددها الأباء والأمهات، يصرخون بها أحياناً حرصاً على مصلحة أبنائهم، وبالطبع لديهم كل الحق….
والآن… اغمض عينيك لثواني معدودة، وتخيل أن تلك الجملة قد أنطلقت بمنزل ريفي صغير منذ عشر سنوات، يوجهها الأب الفلاح البسيط إلى طفله ” محمد صلاح “.
وبعد دُشٍ بارد من التأنيب والتهزيق، أنصاع أخيراً ذلك الطفل إلى كلام والده، تاركاً تلك الكرة الجلدية إلى الأبد، وبعد معاناة مع نظام تعليمي فاشل لا يعترف سوى بالحفظ والصم والترديد تخرج أخيراً ” محمد صلاح “، من إحدى كليات القمة، وبعد تأدية الخدمة العسكرية، قدم (السي في) الخاص به بإحدى الشركات، متجاوزاً تناكة ال (الإتش أر) وأسئلتهم الوجودية الروتينية، ثم أنطلقت الزغاريد بمنزله، احتفالاً بقبوله بتلك الشركة.
عارف حضرتك ده كان هيبقى معناه إيه؟!
قد يكون أول ما أتى إلى ذهنك، هو كم الملايين التي فقدتها تلك الأسرة البسيطة، من مجرد نصيحة وجهها أب إلى ولده قاصداً بها كل خير، ولكن بعد ثواني سيقفز إلى ذهنك أن استجابة ذلك الطفل لتلك النصيحة البريئة، كانت ستضر بمصلحة بلدٍ وشعب.
ومثل ذلك المنزل كمثلِ الألاف من بيوتنا المصرية، وتحت بند الخوف على المصلحة والمستقبل تُقتل ألاف المواهب، ليست فقط الكروية بل منها الثقافي والفني والعلمي أيضاً. فتشعر من كلام أهالينا أن بالعلم فقط طوق النجاة، وأن بمجرد دخولك لإحدى كليات القمة سيتحول مسار حياتك وستجد أن “الحياة بقى لونها بمبي”.
تخيل معي صديقي القارئ، كم من مهندس، طبيب، مُعلم….إلخ..يقف بطابور العاطلين، تخلى عن حلمه وموهبته جراء ذلك الوعد المزيف، تخيل كم من مواهب وُأدت بقصدٍ أو دون قصد، هل سوق العمل بحاجة إلى مهندسين أو أطباء أو غيره من المهن؟ أنظر إلى كم العاطلين بالنقابات المهنية وستجد أن الإجابة بوضوح شديد “لا”. ولكن الأكيد ان بلدنا الغالي في حاجة إلى العديد من المخترعين والمفكرين والأدباء، بل أيضاً بحاجة إلى جيلٍ جديد من الموسيقيين والفنانين لإصلاح ما أفسده جيل كان كل همه ” الشهادة”
” شايفك ياللي بتتريق عالكلام”
عزيزي المتنمر…هل تعلم أن إفساح المجال للمواهب بالدول المتقدمة يساعد في القضاء على البطالة بنسبة تتجاوز ال 20%؟ أقول لحضرتك إزاي…. ببساطة وإيجاز وعلى سبيل المثال وليس الحصر…أوضحت دراسة إحصائية ” غير رسمية”، أجريت عام 2009 بمصر…أن ثلاثون بالمائة من الشباب كان لديهم مواهب بمختلف أنواعها، تخلوا عنها بسبب رفض الأهل ومن أجل الإلتحاق بكليات القمة..وعلى حسب تلك الدراسة فلنتخيل سوياً أن لدينا عشرة أطباء عاطلين عن العمل، وبالمقابل ثلاثون طبيباً عاملاً، سنجد من ضمن العاطلين ثلاث أطباء على الأقل كان لديهم مواهب وأمنيات قُتلت من أجل الوصول إلى “البالطو”، ومن ضمن الثلاثين طبيباً..سنجد أن تسعة أطباء عاملين تخلوا عن أحلامهم ومواهبهم تحت ضغط الأهل، وهذا يعني وببساطة أن إفساح المجال للمواهب والسعي لتنميتها كان سيوفر فرصة عمل لثلاثة أطباء عاطلين، بل والمفاجأة أنه سيوفر تسعة فرص عمل من ضمن الثلاثين طبيب، وبالتالي سنجد إختفاء تام لظاهرة البطالة بذلك المثال المبسط.
وهي الناس لاقية تاكل…عشان تنمي مواهب عيالها؟
قد يكون للظروف الإقتصادية آثر بالغ السوء على فكرة إفساح المجال للمواهب، وهنا يتوجب على الدولة والمجتمع السعي بكل جهد في البحث والتنقيب عن الجواهر المدفونة بالمدارس ولا سيما بمرحلة التعليم الأساسي، عن طريق تنظيم مسابقات مدرسية على مستوى إقليمي، في محاولة تشجيع وإبراز وتنمية المواهب وتبنيها، بل ومحاولة الحصول على عائد مادي من تسويق تلك المسابقات، وبعد تبني الطفل الموهوب…سيكون لدى الدولة جيشٌ من الموهوبين فكرياً أو غنائياً أو علمياً أو أياً كان، وبالتالي يمكن للدولة الإنتفاع بهم ومن موهبتهم إقتصادياً.
وهي الدولة هتعمل إيه ولا إيه؟
هل تعلم صديقي القارئ أن دولة عريقة مثل “البرازيل”، إستطاعت فقط وبالإعتماد على مواهب أبنائها وشغفهم بكرة القدم بالإسهام بأكثر من 5% من الدخل القومي للبرازيل…فقط بالإعتماد على المواهب؟ بخلاف أن أي موهبة ناجحة في مجالها، سيكون لها أثر بنقل أسرة كاملة وربما عائلة من الفقر إلى حالة إقتصادية جيدة على الأقل، ولنا في ” مو صلاح ” خير دليل.
وبالتالي فإن إفساح المجال للمواهب سيكون له آثر إقتصادي أكبر مما نتوقعه، بخلاف أثره الإجتماعي الكبير.
قد يكون ما سبق ذو أهمية ثانوية في ظل ما تعانيه البلاد من هجمات الإرهاب الغاشم ، ولكن هل تعلم أن لإفساح المواهب علاقة بأمننا القومي؟!
قد تظن أن تلك الجملة محاولة من الكاتب لركوب الموجة أو تفخيم لفكرة مقالته، ولن أنفي ذلك، ولكني فقط سأكتفي بتوجيه سؤالين…
أما سؤالي الأول فهو
هل لطفلٍ قد أُفسح له المجال بالتعبير عن مواهبه أن يحمل سلاحاً؟
نحن نعلم جميعاً أن دعاة الإرهاب والشر سلاحهم اليأس الذي أستوطن في صدور أبنائنا نتيجة الظروف الإقتصادية والإجتماعية المحيطة…حتى ثبت لدى عقيدة بعض من شبابنا أن لا فرق بين موتٍ وحياة…والآن ها هو سؤالي الثاني
هل لشابٍ يرى ببلده حكومة ومؤسسات تدعم موهبته وتسانده في تحقيق ذاته والتعبير عن نفسه أن يُفجر نفسه أو يحكم على مستقبله بالضياع؟!
سأترك لكلٍ من يقرأ تلك السطور المتواضعة حرية الإجابة على أسئلتي، ولكني أتوجه بدعوة إلى كل أبٍ وأم….أبحثوا عن مواهب أبنائكم بل ونموها…أطلقوا لهم العنان وأهتموا بمواهبهم قدر الإهتمام بدراستهم…اللي ذاكروا أخدو إيه؟!.
أما حكومتنا المبجلة المشغولة دائماً بمؤتمرات الشباب والداعمة لهم ( إعلامياً )….
أعتقد أن أرض الواقع هي الأحق بمجهوداتكم…فلتفسحوا المجال لمواهب أبنائنا…وتهيئوا المناخ المناسب لها
وأنا على يقين أننا سنحصل على عشرات من ( محمد صلاح)…كروياً، علمياً، أدبياً، غنائياً، ….إلخ
نقبوا عن الجواهر المدفونة…