النخبة والفجر الكاذب
تأليف: كريستوف غويلي
عرض وترجمة: نضال إبراهيم
يبدو أن الفجوة في فرنسا بين النخبة والطبقات العاملة وصلت إلى مستوى لا يمكن وصفه، خاصة أن هذا البلد الديمقراطي تحوّل إلى مجتمع متعدد الثقافات يعاني عدم التكافؤ في الفرص، وهذا ترك الكثيرين على قارعة الطريق كما يقال. يحاول هذا الكتاب أن يسلط الضوء على الأزمة التي تمر بها فرنسا، ويقدم مؤلفه رؤيته في كيفية إنقاذ ما يمكن إنقاذه.
في هذا الكتاب الصادر عن مطبعة «ييل» الجامعية في يناير 2019 باللغة الإنجليزية ضمن 184 صفحة من القطع المتوسط، يوضح مؤلفه كريستوف غويلي أنه «لا يوجد اقتصاد فرنسي موحد، والذين ابتعدوا عن الحصون الاقتصادية الجديدة في البلاد يعانون بشكل غير متناسب على الجبهتين الاقتصادية والاجتماعية».
في تحليل غويلي، الدعم الذي قدّم لفكرة «مجتمع مفتوح» في فرنسا عبارة عن ستار من الدخان يهدف إلى حجب ظهور مجتمع مغلق، محاط بجدران لصالح الطبقات العليا. ويرى أن الطبقات الحاكمة في فرنسا تصل إلى مرحلة خطرة. وبدون استقرار الاقتصاد المتنامي، ينعدم الأمل بالنسبة للمستبعدين من النمو، مما يقوض شرعية دولة متعددة الثقافات.
يقول: «وسط صخب التهنئة الذاتية للجمهوريين، احتضنت فرنسا العولمة بكل مجدها. أينما ينظر المرء، من التناوب المستمر بين الأحزاب التقليدية لوسط اليسار ووسط اليمين إلى إنكار الديمقراطية نفسها مع الاستفتاء الهزلي لعام 2005 على دستور أوروبي، يتضح أن فرنسا قد أصبحت «أمريكيّة» المجتمع مثل البقية، متعددة الثقافات، ولا تحقق المساواة».
«في غضون بضعة عقود، فرض قانون الأسواق العالمية الجائر سلطته في كل مكان، ليحل محل مجتمع قائم على مبادئ المساواة، وذلك عبر مجتمع مستقطب يعاني توترات متنوعة تحت سطح هادئ. إن الانهيار الاجتماعي والثقافي الذي لم يسبق له مثيل بسبب هذا التأرجح المفاجئ، يتم تغطيته حتى الآن بواسطة النفخ في أبواق الشعارات الوطنية. لكن هذا الصخب الجمهوري، بالرغم من أنه يعلو أكثر فأكثر إلا أنه يزيد من دائرة الخطأ مع مرور الزمن. وكما هو الحال في جميع البلدان المتقدمة الأخرى، فإن النظام الاقتصادي الجديد لا يوقف الانقسام والخلاف».
«كيف تغيرت الأمور بهذه السرعة؟ كيف استطاعت طبقة مهيمنة، وضئيلة بحكم التعريف، أن تفرض نموذجاً اقتصادياً لم يختره أحد، ولاسيما الطبقة العاملة؟ كيف كان هذا النموذج قادراً على الفوز بالقبول بهذه السهولة، عندما كان نقد نظامٍ يديره المصرفيون (والأثرياء الأوليغارشيون والذين يفترض أنهم يخدمون الشعب) مألوفاً للتعليقات الفكرية والنقاش السياسي؟»
«كل هذا كان ممكناً في المقام الأول، لأن الطبقة المهيمنة تدعمها شريحة كبيرة من المجتمع، أي جميع المستفيدين من العولمة أو الذين تحميهم من عواقبها السلبية. هؤلاء الناس، على الرغم من أنهم أنفسهم لا يحتاجون إلى أن يكونوا أغنياء أو أصحاب رؤوس أموال، يشكلون جزءاً حاسماً مما أسميه فرنسا العليا. تتكون الطبقة المتمتعة بالامتيازات ليس فقط من النخبة في البلاد والطبقات العليا التقليدية، بل أيضاً من البرجوازية الجديدة التي تدعمها، والتي بدون مساعدتها لم يكن من الممكن فعل شيء. ويتحملون معاً مسؤولية السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي أقحمت أغلبية الطبقة العاملة في نوعٍ من انعدام الأمن لم تكن تعرفه من قبل. ويتفقون على وضع اقتصاد البلاد على أساس إقليمي جديد وهو «المتروبوليتية» التي لها تأثير في إبعاد أفراد المجتمع الأقل ثراء إلى الهامش، ويُحكَم عليهم بالعيش كمواطنين من الدرجة الثانية».
العولمة والشعبوية
«أعادت العولمة إحياء قلعة فرنسا في العصور الوسطى. لم تعد هناك المدن المسوّرة، بل أصبحت الآن مدناً حديثة تتركز فيها فئة جديدة تستحوذ على معظم فوائد الإنتاج والتجارة الحرّة في الخارج. فالعمال في البلدان المتقدمة النمو، والمستبعدين من اقتصاد أوسع يعتمدون على تقسيم العمل الدولي الذي لم يعد لديهم مكان فيه، والذين يتقاضون أجوراً زهيدة نسبياً وغير محميين، يجدون أنفسهم ينحدرون إلى فرنسا أدنى، وفرنسا مكونة من البلدات الصغيرة والمتوسطة الحجم ومن المناطق الريفية. في كل مكان، من المجتمع المهمّش في فرنسا (جزء البلد الذي صوّت في استفتاء الاتحاد الأوروبي ب لا في عام 2005) إلى أقرانهم المهمّشين في بريطانيا (أرض بريكست)، وأمريكا (أرض ترامب) إلى السويد (طليعة اليمين الأوروبي البديل) وخارجها، تثير العولمة الاقتصادية نفس روح الثورة الشعبوية».
«ويرجع إلى هذه الروح ذاتها أن فرنسا العليا تجد نفسها الآن في خطرٍ شديد يتمثل في فقدان السيطرة على الأدنى. كانت معاهدة ماستريخت لعام 1992 هي الرمية الأولى عبر القوس، والثانية هي استفتاء عام 2005».
«سوف ينهار النظام الحالي في النهاية ليس نتيجة لفعل حاسد، بل نتيجة لبطء عملية الانتساب الاجتماعي والثقافي من جانب الطبقة العاملة. إن الطبقة السياسية بالمعنى الأوسع – ليس السياسيين فحسب، بل القادة الثقافيين والمثقفين والصحفيين أيضاً – بدأت الآن تتوجس من احتمال تمرد العبيد المعاصرين. وبدأ شكل جديد من الصراع الطبقي، والذي من المفروض أنه انتهى منذ زمن طويل، قد أصبح واضحاً للجميع».
«إن الوجود اليومي للطبقة العاملة غير مرئي وغير مسموع في فرنسا، وهي قصة لا توصف عن الإجهاد والتوتر والمقاومة التي لا يمكن تركيبها في الإطار العقلي للفئات المهيمنة. ربما لن تظهر أبداً في أي من الكتب المدرسية المخصصة في المدارس أو الجامعات. ليس لدى أعضاء الطبقة العاملة اليوم أي خيار سوى تحدي النظام المهيمن من خلال استعادة السيطرة على حياتهم الخاصة. فهم يكافحون ضد القيود الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي أجبِروا بموجبها على العيش ضد إرادتهم. إن التكيف الفرنسي اللاإرادي للعولمة يشير إلى طريق نحو عالم أصبح في طور الولادة – عالم لم يكن من خلال الخطب الرفيعة من السياسيين – بل بسبب انعدام الأمن الاجتماعي، والتغريب، والانفصال الذي فرضه الوجود اليومي للطبقة العاملة».
انتشار الذعر
«تدرك الطبقات المهيمنة الآن أنها فقدت السيطرة على تلك الأقل ثراء. الذعر ملموس. ورؤساء بلديات باريس ولندن مستعدون الآن للإشارة إلى أن «المدن العالمية الحقيقية» تحرر نفسها من البلدان المضيفة لها. في رسالة مشتركة إلى رئيس تحرير الصحف في العواصم الفرنسية والبريطانية التي نُشرت بعد أربعة أيام من التصويت على «بريكست» أشاد كل من آن هيدالغو عمدة باريس، وصادق خان عمدة لندن بالدينامية والانفتاح في مدنهما، وهذه الصفات تتناقض مع «خمول الدول القومية» التي يُنظَر إليها على أنها إطار عفا عليه الزمن للعلاقات الدولية، ومصدر محفوف بالمخاطر للجهل الانعزالي. في واقع الأمر، إن مؤيدي النظام العالمي، الذين يشكلون أقلية في أوطانهم، قد أصدروا إعلان الاستقلال نيابة عن القلاع الحضرية الجديدة؛ حيث تخلّوا عن الطبقة العاملة تاركين إياهم لمصيرهم في موضع خلفي منعزل بائس. وبالتالي فإن انسحاب إنجلترا وفرنسا من أوروبا يتم الرد عليه من خلال انسحاب البرجوازية العالمية من البلدين. ومع ذلك، فبينما ينتظرون ظهوراً مشكوكاً فيه لعصر جديد من دول المدن، سيتعين على الطبقات العليا مواجهة مشكلة وجودية وهي: كيف يمكن لنموذج عالمي رفضته أغلبية المواطنين أن يضمن المستقبل؟
«الآن بعد أن بدأ الهروب الكبير للطبقة العاملة، سيعتمد المستقبل على قدرة الطبقة السياسية على الانضمام إليها في إعطاء صوت لمطالب وتطلعات الأسوأ حالاً، وليس على الاستمرار في تعزيز برنامج أيديولوجي غير عملي. ويفترض أن هذه الطبقة السياسية سوف تكون قادرة على التوقف عن إنكار الواقع، والتوقف عن محاولة إسكات النقد الموجه للنظام القائم، والاستماع إلى مظالم فرنسا الدنيا، وأخذها على محمل الجد».
«النظام الفرنسي الحالي يستريح كما يفعل شخص مع دَين لا يمكن سداده أبداً، ويعيش تحت تهديد الانهيار عاجلاً أم آجلاً. إن الخطر الكبير هو أن المشرفين على شؤونهم لن ينظروا إلى المدى القصير بل سيسعون إلى الحفاظ على وضعهم الطبقي على الرغم من الفوضى الاجتماعية والثقافية التي يولّدها النظام أو تحدث بسببه. إذا اختارت فرنسا العليا هذا الخيار، فيمكن للمرء أن يكون متأكداً من أنه سيفعل ذلك باسم الصالح العام، والمجتمع المفتوح، والمساواة والجمهورية. لكن الدوافع الحقيقية تبدو مختلفة للغاية». يشير رد الفعل تجاه التصويت على معاهدة بريكست عام 2016 إلى أن هناك إغراء متزايداً لاحتضان نسخة ناعمة من نظرية «الشمولية».
ديمقراطية محفوفة بالمخاطر
«في أعقاب هذا التصويت السيادي الأكثر حداثة ضد أوروبا، أصبح من الواضح أن الطبقات المسيطرة الآن تميل إلى الاعتراف بنتائج الانتخابات فقط، عندما تدعم هذه النتائج مصالحها. كما هو الحال في الاستفتاء الفرنسي على الاتحاد الأوروبي في عام 2005، فإن الديمقراطيين الذين يعيشون في جو معتدل في فرنسا العليا تجدهم مستعدين لإعادة كتابة قواعد المشاركة السياسية، بحجة أن الطبقات العاملة ضعيفة التعليم لا تفهم ما هو على المحك، وإنهم ينجرفون بطبيعة الحال وفق غرائزهم غير المقبولة. قد يكون من المفيد تذكير أسياد القلاع الجديدة بأن الديمقراطية تقوم على مبدأ أن «العامل» و«المثقف المستنير» لهما حق متساوٍ في تقرير مستقبل بلدهما».
«اليوم يبدو أن هذا المبدأ تم التخلي عنه ليس فقط من قبل النخب، بل وأيضاً بشكل أكثر عمومية، من قبل جميع أولئك الذين يشكلون الطبقات العليا. في بريطانيا، وفي أعقاب الاستفتاء البريطاني للخروج من أوروبا، ظهرت عريضة تطالب بأن توضع المسألة أمام جمهور الناخبين مرة أخرى، لأن أولئك الذين صوّتوا للمغادرة لم يعرفوا حقيقة ما كانوا يفعلونه، وفعلاً حصدت هذه العريضة ملايين التواقيع. في فرنسا، كانت هناك دعوات لنظام ديمقراطي محتمل؛ حيث أعلن رئيس الوزراء المحافظ السابق فرانسوا فيون أن الشباب يجب أن يكون لهم صوتان. في سويسرا، اقترحت عضوة البرلمان الاشتراكية، جاكلين فيهر، توسيع نطاق هذا الامتياز الموسع ليشمل جميع الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين ثمانية عشر وأربعين عاماً. جاء الاهتمام المفاجئ في تصويت الشباب الذي أظهره السياسيون في كل من وسط اليسار واليمين في أعقاب استطلاعات الرأي الخاصة بالخروج، مما يدل على أن أغلبية الشباب في بريطانيا صوّتوا بشكلٍ صحيح، أي لصالح البقاء في أوروبا، في حين أن الأشخاص فوق سن الخمسين، صوّتوا بأغلبية ساحقة للمغادرة».
«في الواقع، أظهر معظم الشباب عدم اهتمامهم بالامتناع عن التصويت. كما أن موقف التيار العام للسياسيين المؤيد للشباب/المناهض للقدماء، يخفي العزم على إقامة ديمقراطية مقيّدة يُستبعَد منها المحرومون فعلياً. ويبين التحليل الجغرافي لأنماط التصويت، أن كبار السن في بريطانيا، الذين صوّتوا للبقاء، هم في معظمهم أبناء البرجوازية الجديدة في أكبر المدن، لاسيما لندن».
«في فرنسا، في ظل هذه الديمقراطية المحدودة، يمكن للمرء أن يتخيل بسهولة أن إخطاراً قد يظهر في الجريدة الرسمية للقوانين والمراسيم التي تصدرها الحكومة، عن نظام جديد قائم على النقاط للتصويت والذي سيعّين أعضاء شباباً من البرجوازية الحضرية الجديدة بدرجة 3، المديرين التنفيذيين والمديرين المتوسطين درجة 2، والموظفين درجة 1، والعاطلين عن العمل من المدن الصغار بدرجة 0.5، أما بالنسبة للمتقاعدين الفقراء الذين يعيشون في المناطق الريفية المهجورة، لم تعد مشاركتهم مطلوبة. ومع ذلك فإن النظام الاستبدادي الشمولي هو أمر محفوف بالمخاطر، لأن النموذج الاقتصادي العالمي لن يكون أبداً مستداماً من الناحية الاجتماعية».
الكتاب مقسم إلى أربعة أجزاء ما عدا المقدمة والخاتمة وهي: لقلاع الجديدة، مجتمع مأتمرك، إدارة الرأي العام، انشقاق الطبقة العاملة.
نبذة عن الكاتب
كريستوف غيلوي (من مواليد 14 أكتوبر 1964 في مونتروي، سين سانت دينيس) عالم جغرافيا ومؤلف فرنسي.. تركز كتبه على أن العديد من أعضاء النخبة السياسية الذين فقدوا الاتصال بالطبقات الدنيا، والتي تقطن بشكل أساسي المناطق الريفية في فرنسا، واشتهر بنظريته حول «فرنسا الطرفية أو المهمشة» لشرح صعود الجبهة الوطنية في فرنسا، كما أوضح دعم الولايات المتحدة لدونالد ترامب بوجود أمريكا المحيطية خلال مقابلة في مجلة «لو بوينت» الفرنسية. يكتب في العديد من الصحف والمجلات العالمية.