النزعة التدميرية للخوف…مأساة حضارية أيضا
بجمال الأسود
الخوف هو حالة القلق التي تنتاب الفرد نتيجة عدم إشباع حاجات حسية أو معنوية، هكذا يعرفه علماء النفس، بينما يعرفه الفلاسفة والمفكرون بأنه مأساة إنسانية تنتاب الفرد والجماعة، بل والأمم أيضا نتيجة انعدام الاستقرار الأمني والاقتصادي والاجتماعي، وفي خضم البحث عن إشباع هذه الحاجات ينزع الخائف نحو ممارسة التدمير على نفسه أو على غيره، بينما الفعل التدميري هو رد فعل سادي على رفض إشباع هذه الحاجات الحيوية، لقد وضعت الحروب والتدمير نتيجة الخوف الإنسان عاريا من تكوينه الحضاري، واستحوذت الحروب دوما على اهتمام الفلاسفة والمفكرين الإنسانيين، إذ يرون أنها ليست في الحقيقة ذلك الصراع الشريف والبطولي الذي نرويه لشبابنا، بل هي بالأحرى طريق مفتوح إلى العداوة والقلق والاضطهاد، وأن التفاؤل الذي ساد في عصر التنوير، وحتى بعد الحرب العالمية الثانية، بأن العالم يتجه نحو حالة واسعة من الاطمئنان والانسجام و السلام كان وهما.
صحيح أن البشرية قد حققت من الإنجازات العلمية، لا سيما منذ بداية القرن العشرين الميلادي إلى اليوم أضعافا لما حققته طوال تاريخها، كان يتوقع منها أن تكون متحضرة وأن تنجح في تحقيق السلام العالمي، غير أن حروب القرن العشرين وصراعاتنا الدامية الحالية دمرت هذا الوهم.
في الخمسين سنة الأخيرة تغير حال الدنيا أكثر مما تغير على مدى خمسة آلاف سنة السابقة، ﻫﺫﺍ ﻗﺒل ﺍﻨﺘﺸﺎﺭ ﺍﻟﻜﻤﺒﻴﻭﺘﺭ ﻭﻏﺯﻭ الفضاء، ﻓﺎﻨﻅﺭ ﻤﺎ ﺤﺩﺙ ﺒﻌﺩ ﺫﻟﻙ ﻓﻲ ﻨﺼﻑ ﻫﺫﻩ ﺍﻟﻤﺩﺓ، ﺘﻐﻠﺏ الإنسان ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺨﻭﻑ- من الطبيعة والغيبيات على وجه الخصوص- انطلق ﻓﻲ ﺃﻋﻤﺎﻕ نفسه ﺍﻟﻔﻀﻭل ﻭﺍﻟﻨﺯﻋﺔ البناءة، ﻭاﻨﺘﻘـل ﺒﻬـﺫﻩ ﺍﻟﺩﻭﺍﻓﻊ ﺍﻟﻐﺭﻴﺯﻴﺔ ﻨﺤﻭ ﺇﺩﺭﺍﻙ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ، ﻭﺍﻟﺭﻏﺒﺔ ﻓﻲ ﺘﺠﻤﻴﻠﻬﺎ، إنما مع الخوف غابت عنه اﻠﻘﺩﺭﺓ على التمييز، وﻋﻠﻰ ﺇﺩﺭﺍﻙ ﻤﻀﺎﻤﻴﻥ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ ﻭﺭﺴﺎﻟﺘﻬﺎ، ﻭﺃﻭﻀﺎﻉ ﺍﻟﻜﻭﻥ ﻭﺍﻟﺩﻨﻴﺎ ﻤﻥ حوله، إن حب القوة قد ﻴﻜﻭﻥ دافعا ﺃﻗﻭﻯ ﻤﻥ ﺍﻟﺨﻭﻑ، ﻴـﺩﻓﻊ ﺒﺎﻷﻤﻡ ﺇﻟﻰ ﺃﻥ ﺘﺘﺒﻊ ﺴﻴﺎﺴﺎﺕ ﻏﻴﺭ ﻋﻘﻼﻨﻴﺔ، فقد ﺍﻨﻘﺎﺩﺕ ﺃﻤﻡ ﻋﻅﻴﻤﺔ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺨﺭﺍﺏ ﻭﺍﻟﻜﻭﺍﺭﺙ، ﻟﻤﺠﺭﺩ ﻋـﺩﻡ ﺍﻟﺭﻏﺒـﺔ ﻓـﻲ ﺍﻹﻗﺭﺍﺭ ﺒﺄﻥ ﻫﻨﺎﻙ حدودا ﻟﻤﺎ ﻟـﺩﻴﻬﺎ ﻤـﻥ ﺴـﻁﻭﺓ، وساهمت بذلك في صناعة الخوف، الذي ارتد دمارا عليها، وجعلت بذلك من الخائفين أبطالا خارقين في صناعة التدمير، انه ﺍﻟﺸﺭ ابن الخوف ﺍﻟﺫﻱ ﻴﺄﺘﻴﻨﺎ ﻤﻥ ﺩﺍﺨل ﻋﻘﻭﻟﻨﺎ، ﻭﺍﻟﺫﻱ ﺘﻤﺘﺩ ﺠـﺫﻭﺭﻩ في تكويننا منذ ﺍﻷﺯﻤﻨﺔ ﺍﻟﺴﺤﻴﻘﺔ، وهو كفيل ﺒﺄﻥ يلحق ﺍﻟﺩﻤﺎﺭ ﺒﻜل ﻤﺎ ﻨﻨﻌﻡ ﺒﻪ الآن.
أجرى معهد غالوب الشهير استفتاء عالميا عن الله والمال والسعادة، و طاف باحثوه أرجاء المعمورة، من أجل استجواب عشرة ألاف إنسان، وجمعت نتائجه في ثمانية عشرة مجلدا، وهي نتائج ركزت على الفوارق بين الأمم التي لا تقتصر على التكنولوجيا والمال، بل تغوص في فكر الإنسان وسلوكه، وخلصت الدراسة إلى أنه مهما كانت الأسباب و النتائج فإن الجانب الإنساني كان يجب أن يطرح في نهاية المطاف، حيث أنه لا يمكن لشخص أو جماعة أن يسلم تفكيره من الخوف والفوضى والقلق وهو خاوي البطن، أو يعاني من الضغوط الاجتماعية والاقتصادية وحتى السياسية، كما لا ننسى أن ظروف التاريخ والجغرافيا تحكمت في تقسيم الأمم والجماعات، و كان غياب العدل في توزيع الثروة لدى كثير من الأمم شوه تصنيفها، من حيث الغنى والفقر، أو من حيث التقدم والتخلف.
ثم إن ارتباط العالم المتقدم بتاريخ الاستعمار وما أكتنفه من نهب للثروات، وقهر للإنسان، لهو واحد من الأسباب الوجيهة التي تسببت في هذا التصنيف الأعوج، وقد لفت التقرير انتباه الدول المتقدمة، إلى أنها مهما تطورت فهي تركب سفينة واحدة مع من تسميهم متخلفين، و إذا لم تحسن التعاون معهم فسيغرق الجميع، وأن الشعور بالخوف والغربة عند الناس في البلدان النامية لينذر بحوادث كئيبة، ﻋﻠﻴﻨﺎ ﺃﻥ ﻨﺩﺭﻙ ﺃﻥ ﺇﻫﺩﺍﺭ ﺍﻟﻭﻗﺕ ﻭﺍﻟﻤﺎل ﻭﺍﻟﻁﺎﻗﺎﺕ ﺍﻟﻔﻜﺭﻴﺔ لدى الأمم ﻤﻥ ﺃﺠل بناء ﺃﺴﻠﺤﺔ ﺍﻟﺩﻤﺎﺭ، يساهم في تبادل الخوف والدمار بينها ليس إلا، وإن الخوف الذي ينتاب أمة من الأمم يمكن إن يتسبب في إرباك الإرادة والإدارة عندها، ويدفع العاقل المتحضر فيها إلى تحييد مضامين الحياة ورسالتها، وينزع نحو التدمير مما يسبب مأساة للحضارة الإنسانية أيضا.