«النقاب» وآداب الشيوخ
منذ خمسة عشر عامًا، حينما كان شيخ الأزهر هو الإمام الراحل «محمد سيد طنطاوى»، نشرت الصحف ما جرى أثناء قيام الإمام بجولة تفقدية لأحد المعاهد الأزهرية للفتيات بمدينة نصر. واقع ما جرى هو أن «الشيخ طنطاوى» قد فوجئ بتلميذة فى الصف الثانى الإعدادى ترتدى النقاب، فما كان منه إلا أن طلب منها فى حدة وغضب شديد خلعه، قائلًا: «النقاب مجرد عادة لا علاقة له بالدين الإسلامى من قريب أو بعيد، وبعدين إنت قاعدة مع زميلاتك البنات فى الفصل لابسة النقاب ليه؟». أمام إصرار الشيخ خلعت التلميذة النقاب وكشفت وجهها، فعلّق الشيخ قائلًا: «لما إنتى كده أمال لو كنت جميلة شوية كنت عملتى إيه؟».. (نشرت الصحف صورة للشيخ طنطاوى وهو ينزع نقاب التلميذة بيده).
حينما تدخلت إحدى المدرسات موضحة أن الطالبة تخلع نقابها داخل المعهد لأن كل المتواجدات فيه فتيات، ولم تقم بارتدائه إلا حينما وجدت فضيلته والوفد المرافق يدخلون الفصل. وحينما قالت التلميذة إنها تقوم بارتدائه حتى لا يراها أحد، رد الشيخ منفعلًا: «قلت لك إن النقاب لا علاقة له بالإسلام وهو مجرد عادة، وأنا أفهم فى الدين أكتر منك ومن اللى خلفوكى». وأعلن الشيخ طنطاوى عزمه إصدار قرار رسمى بمنع ارتداء النقاب داخل المعاهد الأزهرية، ومنع دخول أى طالبة أو مدرسة المعهد مرتدية النقاب.
عقب نشر الصحف ما جرى، قامت الدنيا على «الشيخ».. السلفيون والإخوان.. وغيرهم كثيرون، استنكروا جميعًا ما فعله الشيخ طنطاوى، وحملوا عليه إعلاميًّا، خاصة أن علاقته بالصحافة لم تكن جيدة نظرًا لما عُرف عنه من سهولة استثارته، وغلظة ردود أفعاله. وعلى الرغم من جرأته فى مواجهة التيارات المتشددة داخل مؤسسته (الأزهر) بآراء مغايرة، مثل رأيه فى أن «النقاب» عادة وليس عبادة، فإن أسلوبه الخشن فى التعبير عن تلك الآراء لم يكفل لها النجاح.
ولأن أمواج الفكر السلفى والإخوانى كانت عالية داخل مؤسسة الأزهر وخارجها اضطر «الشيخ طنطاوى» للتراجع عما صرح به، ولم يستطع إصدار قرار رسمى بمنع ارتداء النقاب داخل المعاهد الأزهرية، وحفظًا لماء الوجه، استصدر قرارًا من مؤسسته بمنع ارتداء النقاب داخل فصول البنات التى تدرس فيها مدرسات، وفقط.
بالطبع لا أحد يُقر هذه الغلظة فى النصح والإرشاد، والسخرية الفظة من صاحب تلك المكانة الرفيعة فى مواجهة تلميذة.. طفلة ضعيفة.
واليوم، وبعد خمسة عشر عامًا من تلك الواقعة، تُرى ما حال «النقاب» بين «العادة» و«العبادة»؟.
امنعوا الأقنعة
فى العقد الأخير، وبلا مواربة، مَن لا يلاحظ تمدد الفكر السلفى المتشدد فى كل أنحاء البلاد، وفى كل المجالات، فعليه أن يتحسس رأسه. لقد تزايد ظهور «المنتقبات» فى المجال العام، بل الاحتفاء بهن، على كافة الأصعدة، كما أن انتشاره فى دُور العلم يحولها إلى ساحات لاستعراض عضلات التجنيد السلفية المتشددة، المتربصة بمستقبل البلاد.
* الأقنعة، أيًّا كانت مسمياتها، تمثل خطورة على الأمن المجتمعى. وهى أداة من أدوات التخفى لارتكاب الجرائم، فهل هناك مَن يجرؤ على منع «النقاب/ القناع» من المجال العام، باعتباره «عادة»- وليس عبادة- تمثل خطرًا كامنًا على المجتمع؟، أم أن الأوان قد فات؟.
* من حق الطفل أن يرى وجه معلمته، ومن حق المواطن أن يرى وجه مَن يتعامل معه فى كل مرافق ومؤسسات الدولة. والمنطق يحتم ألا يُسمح بقيادة السيارات للشخص المقنع بإخفاء وجهه أو وجهها خلف قناع. والقانون هو مَن يحكم الشارع فى الدولة الحديثة، لا أقوال الفقهاء.
* عندما تغيب ثقافة الحياة، تحضر ثقافة الموت، يصبح من السهل أن تُملأ الأدمغة الفارغة بأى شىء، باسم الدين. وبالتالى تجنيد مَن هم فى سن المراهقة ومطلع الشباب ليصبحوا أسلحة فتاكة فى أيدى مَن يحشون أدمغتهم بأساطير الترهيب والترغيب عن حياة أخرى بعد الموت.
ديوك «المراغى»
* تفاوت مَن تولوا مشيخة «الأزهر» بين التشدد والتطرف والاعتدال النسبى، ويُعد «الشيخ مصطفى المراغى» بوجهه الطلق غير العبوس من بين هؤلاء المعتدلين. ولقد سمعت من السيدة الفاضلة حفيدته أن والدتها الكريمة، ابنة الشيخ المراغى، لم تكن محجبة. والشيخ المراغى الذى تولى مشيخة الأزهر مرتين، ولمدة تزيد على عشرة أعوام، مَن يجرؤ ويزايد على معرفته بالإسلام؟.
* وبمناسبة ذكر الشيخ «مصطفى المراغى»، نتذكر مقالًا طريفًا للكاتب الصحفى والشاعر المبدع «كامل الشناوى» من كتاب «زعماء وفنانون وأدباء»- وهو من كبار الحكائين الظرفاء- عن علاقة الصداقة بين «الإمام المراغى» والشاعر «حافظ إبراهيم». فى هذا المقال يحكى لنا «كامل» أنه قد اعتاد منذ طفولته رؤية الشيخ «المراغى»، الذى كان زميلًا لأبيه. وأنه كان معجبًا ومبهورًا به وبأحاديثه، وأن هذا الإعجاب لم يتغير مع مرور الزمن، ويقول:
«كان- كلما لقينى- يسألنى عن آخِر ما قرأتُه فى الشعر العربى، ثم يعقب على ذلك بإنشاد أبياتٍ لأبى العلاء أو المتنبى أو شوقى، ويقول: هل هناك ما هو أجمل من الشعر؟!». ويواصل:
«كان المراغى أديبًا يحب الشعر والشعراء.. وكان أجمل أوقات حافظ إبراهيم هذه الساعات التى يقضيها مع الشيخ المراغى فى داره بحلوان، يتناقش معه فى المسائل الدينية والأدبية، وكثيرًا ما كان حافظ يداعب الشيخ، وكان الشيخ يتقبَّل دعاباته ويحرِّضه على المزيد منها».
«طلب حافظ وهو فى دار المراغى زجاجةَ كولونيا، فأحضَرَ له الشيخ زجاجة، وقال وهو يُقدِّمها إليه: خذها وأنت وبختك، يا ترى ماركة إى دى؟، فقال حافظ على الفور: لازم مية القسيس؟!».
«واشترى الشيخ المراغى خمسة من الديوك الرومى، ولم يكد الصباح يطلع عليها حتى ماتت، فأرسل حافظ إلى الشيخ كتابَ تعزيةٍ قال فيه:
رحم الله خمسة من ديوك
للمراغى عوجلت بالفناء
فلو أن الأستاذ خُيِّرَ فيها
بين موت لها وبين فداء
لافتداها بخمسة من شيوخٍ
من أساطين هيئة العلماء
وكان المراغى فى ذلك الوقت شيخًا للأزهر، ورئيسًا لأساطين هيئة العلماء!.». غفر الله لنا ولحافظ إبراهيم.
* نقلا عن ” المصري اليوم “