«الوالدية» في العمل
محمد النغيمش
نكتشف بين حين وآخر مسؤولاً يمارس أسلوب «الوالدية» في العمل، وفي أحيان كثيرة من دون أن يشعر. والوالدية في القيادة هو ذلك القائد الذي يعامل موظفيه باعتبارهم جزءاً من «عائلته» الممتدة! ولذا تجد في تعامله ما يشبه الأبوة «أو الأمومة» الحانية حيناً والشديدة حيناً آخر. وعليه يتوقع «القيادي الأبوي» أن يبادله مرؤوسوه أو أتباعه، في كل مكان، السمع والطاعة، والثقة، وربما الولاء المطلق.
وهو يصور أقصى معاني الوالدية حينما يغلب على تعامله الرفق وشيء من حنان الأمومة فتأتي كلماته ومواساته كالبلسم الشافي لجراح من حوله. وهذا بحد ذاته يعد أمراً صحياً، ذلك أن رؤية قائد يمتلك آذاناً صاغية ومتعاطفة تعد مطلباً دائماً للناس. وهو يفعل كل ذلك لأنه في الواقع يعتقد أنه «يرعاهم» ولا يقودهم بأسلوب المهنية المتعارف عليه.
غير أن هذه العلاقة العائلية لها ضريبة، فهي قد تفسح المجال لتسلل الاتكالية إلى المرؤوسين لأنهم اعتادوا على تصدي «والدهم» لمجمل القضايا التي تعترضهم. وهذه مشكلة تلازم من يصر على الإدلاء بدلوه في كل قضية ولا يولي اهتماماً يذكر لآراء مساعديه ومناصريه. ومنشأ ذلك أنه يتوقع امتثال الناس لأوامره ونواهيه. غير أن من عيوب «القيادة الأبوية» على المرؤوسين تدميرها لمقدرتهم على اتخاذ القرار، وجعلهم أسرى لما يفكر فيه مسؤولهم.
أما عيوبها على القائد نفسه فتتمثل بأنها تحجبه عن القدرات الكامنة حوله بحجة أنه أدرى بمصالحهم. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، ما الفائدة إذن من تدريب وتعليم وتأهيل القوى البشرية إذا كان المسؤول يقبل أن تسيطر على تفكيره النزعة الأبوية، متناسياً أن عالم الإدارة أضحى مليئاً بالتخصصات المتخلفة والدقيقة، وصار يزخر بأعداد هائلة من البشر ممن تلامس هممهم عنان السحاب. كل ما في الأمر أنهم ينتظرون «لحظة الثقة» بهم لتتدفق إبداعاتهم وتفانيهم وحبهم للعمل وربما الوطن بأسره.
وهذا يجرنا لمسألة مهمة، وهي أن من أبجديات التخلي عن سلبيات الوالدية، الاقتناع بأن الاختلاف بالرأي لا يفسد للود قضية. فحينما يرى لفيف من الناس أن إصلاح أمر ما يجدر أن يكون بطريقة تختلف عن توجه «الأب» فهذا لا يعني بأنهم «يعقونه» أو الآوان قد آن لاجتثاثهم بحجة عدم الولاء لهذه المؤسسة أو تلك.
ولو حمل كل الناس رأياً واحداً لتطابقت بيوت البشرية، وشوارعها، وأنفاقها، ومنتجاتها، وخدماتها، لتشكل نسخة مشوهة للعقل البشري الذي جبله الله تعالى على الاختلاف.
ولذا كان من الأجدر حينما تتسلل إلى نفوسنا «أفكار أبوية» منفرة أن نقاومها في سبيل منح الفرصة لمن حولنا ليتألقوا بجلب رؤاهم المختلفة. وإذا كان الشك أو الخوف أو التردد هو ما يعيق القائد فهناك ما يسمى «بالتكليف المؤقت» أو التدوير الإداري والذي نحاول من خلاله استكشافه مهارات المحيطين بنا. فالقيادة هي مهارات وأسلوب لا تظهر على أرض الواقع إلا عبر فرصة التجربة.