الوجه الثالث لأمريكا
خيري منصور
حين رفعت الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية شعار تصفية الاستعمار، كانت قد وقفت إلى جانب أوروبا، وبالتحديد فرنسا ضد النازية، لكن ما حدث بعد ذلك وبدءاً من الحرب الفيتنامية كان على النقيض من ذلك الشعار، وكأن قطيعة ثقافية وسياسية قد وقعت بين الرواد الأمريكيين الذين بشروا بالديمقراطية، والأحفاد الذين أتيح لهم أن يقودوا العالم بفضل ما لديهم من فائق القوة.
لكنهم أضاعوا الكثير من الفرص وبالتحديد خلال العقود الثلاثة الماضية تبعاً لما قاله مستشار الأمن القومي الأسبق برجينسكي! والقول الآن إن أمريكا فقدت مقومات الوسيط الموضوعي المحايد يبدو أقرب إلى تفسير الماء بالماء، أو اكتشاف بياض لون الثلج!
فالأمريكيون أنفسهم ومن خلال عدة مستويات رسمية عبروا مراراً عن انحيازهم إلى «تل أبيب»؛ بل واعتبروا أمنها مقدساً، وكأنها ضاحية نائية في شرقي البحر المتوسط لواشنطن.
ويكفي أن نتذكر عدد المرات التي استخدمت فيها الولايات المتحدة «الفيتو» أو حق النقض بما يتعلق بجرائم الاحتلال وانتهاكاته..
وما قدمته مصر مؤخراً حول قرار الرئيس ترامب نقل سفارة بلاده من «تل أبيب» إلى القدس كان «الفيتو» الأمريكي بانتظاره.
لهذا فانحياز واشنطن لـ«تل أبيب» ليس اكتشافاً؛ لأنه من صميم العلاقات بين واشنطن و«تل أبيب» منذ إعلان الدولة العبرية عام 1948، والاعتراف المبكر من الرئيس ترومان!
وقد يبدو هذا الانحياز متجاوزاً لما يسمى البرغماتية الأمريكية التي تفرض على من يمارسونها أن يبحثوا عن مصالحهم أولاً ويتجنبوا كل ما من شأنه أن يصبح عبئاً عليهم!
والحقيقة أن الانحياز الأمريكي المزمن لـ«تل أبيب» ليس موقفاً أيديولوجياً أو أخلاقياً بقدر ما هو مصلحة أيضاً؛ لأن الدولة العبرية كانت لأكثر من نصف قرن أقرب إلى الوظيفة الجيوسياسية منها إلى الدولة بالمفهوم الكلاسيكي.
أليست مفارقة أن يصبح من بشر بنهاية الكولونيالة قبل أكثر من ستة عقود ممارساً لها اليوم، ومدافعاً عن آخر احتلال في التاريخ؟