اليابان في القرن الأمريكي
تأليف: كينيث بى. بايل
ترجمة وعرض: نضال إبراهيم
لم تتأثر أي دولة بصعود الولايات المتحدة إلى القوة العالمية أكثر من اليابان، فقد أدت سياسة الرئيس فرانكلين روزفلت المتشددة المتمثلة في الاستسلام غير المشروط إلى النهاية الكارثية لحرب آسيا والمحيط الهادئ. يعاين هذا الكتاب كيفية استجابة اليابان، بتراثها المحافظ، إلى السياسة الأمريكية في فرض نظام ليبرالي جديد عليها، ويتناول التطورات الحاصلة على السياسة الخارجية اليابانية في القرن الواحد والعشرين.
كان الثمن الذي دفعته اليابان لإنهاء الاحتلال الأمريكي هو تحالف الحرب الباردة مع الولايات المتحدة الذي ضمن هيمنة أمريكا في المنطقة. ورغم أن اليابان ما تزال تعاني صدمة بسبب تجربتها في زمن الحرب، إلا أنها طورت استراتيجية كبيرة من الاعتماد على الضمانات الأمنية الأمريكية حتى تتمكن الدولة من التركيز على النمو الاقتصادي. لكن منذ البداية، وعلى الرغم من التوقعات الأمريكية، أعادت اليابان العمل بالإصلاحات الأمريكية لتلائم ظروفها الخاصة وتفضيلاتها الثقافية، مشكلة بذلك الاختلافات اليابانية بشكل واضح ومميز في الرأسمالية والديمقراطية والمؤسسات الاجتماعية.
اليوم، مع تراجع النظام العالمي ما بعد الحرب، اليابان تمر بتغيير جوهري في سياستها الخارجية، لتعود إلى دور نشط ومستقل في السياسة العالمية لم تشهدها منذ عام 1945. مع قضائه فترة طويلة في أبحاثه عن اليابان والولايات المتحدة، يقدّم كينيث بايل تاريخاً مدروساً لعلاقة البلدين في وقت تتغير فيه طبيعة هذا التحالف. فقد بدأت اليابان تتخلص من القيود التي فرضت عليها بعد الحرب العالمية الثانية، مع تداعيات على علاقاتها مع الولايات المتحدة ودورها في الجغرافيا السياسية الآسيوية.
يأتي الكتاب في 472 صفحة من القطع المتوسط، صادر عن مطبعة جامعة هارفارد (15 أكتوبر، 2018) ويتكون من 11 فصلاً بعد مقدمة بعنوان «ألفة غير طبيعية»، والفصول هي: 1 قوتان صاعدتان. 2 سياسة الاستسلام غير المشروط. 3 قرار استخدام القنبلة الذرية. 4 ثورة أمريكية في اليابان. 5 تبعية اليابان. 6 لأجل روح اليابان. 7 تحالف غريب. 8 الرأسمالية المنافسة. 9 المجتمع الياباني غير المتقارب. 10 الديمقراطية في اليابان. 11 اليابان في شفق القرن الأمريكي.
فرض الهيمنة الأمريكية
يبدأ الكتاب مع القضية المركزية في خصومتهما، وهي الرؤى المتباينة بشكل كبير حول كيفية فرض النظام في منطقة آسيا-المحيط الهادئ. وهذه الخصومة متشابهة بطريقة ما للتنافس الصيني-الأمريكي في أوائل القرن الواحد والعشرين، فكلا البلدين أراد نظاماً إقليمياً يتطابق مع قيمه ومصالحه. بعد الحرب العالمية الأولى، أسست الولايات المتحدة نظاماً متعدد الطبقات قصير المدى بهدف احتواء الأهداف التوسعية اليابانية على حساب الصين الضعيفة والمنقسمة. هذا النظام المليء بالعيوب بقيادة الولايات المتحدة، والذي عمل على ترسيخ المبادئ الليبرالية لتقرير المصير، والتجارة الحرة (الباب المفتوح)، وتقييد الأسلحة البحرية، والأمن الجماعي، فشل في تقديم أي آلية إلزام. واليابان، كأول قوة صاعدة في آسيا ومتعارضة في قيمها مع الحضارة الغربية – قبل ظهور القوة الحالية في زمننا – سرعان ما أصبحت في حالة من التحدي مع الولايات المتحدة. فاليابان اعتبرت أنها أثبتت أن إنجازات حضارتها يمكن أن تطرد القوة الغربية، وتشكل نظاماً آسيوياً جديداً. وفي الحقيقة أثارت خصومتهما لتحديد نظامين إقليميين، نيران الأخطاء والتفسيرات الخاطئة، التي كثفها الشعور القومي المتفشي، والحقد العرقي، مما أفضى إلى أكبر صراع شهدته آسيا عبر تاريخها.
في الحرب العالمية الثانية، في أعقاب الهجوم الياباني على بيرل هاربر، شنت الولايات المتحدة حملة لتخليص العالم من الفاشية والنزعة العسكرية، ولم تكن مدفوعة فقط بالأهداف المحددة للمصلحة الوطنية، بل أيضاً بالإرادة لأجل إنشاء سلام دائم، والرئيس فرانكلين روزفلت أصر على اتباع سياسة الإخضاع غير المشروط للقوى الفاشية، لكي يمتلك مطلق الحرية في تأسيس نظام عالمي مركزه الولايات المتحدة. ولكن حكمة سياسة الاستسلام غير المشروط كما كانت مطبقة في حرب آسيا-الباسيفيك هي محل شك.
كانت الحرب العالمية الثانية هي الحرب الخارجية الوحيدة التي شنتها أمريكا لتحقيق الاستسلام غير المشروط. في كل حرب كان يتم السعي إلى مفاوضات سلام، لكن ببساطة بدلاً من أن يدفع الأمريكيون اليابانيين للعودة إلى حدودهم الأصلية، طالبوا بحقهم في إعادة تشكيل وصناعة اليابان من الجذور إلى الأغصان. وجاء تطبيق سياسة الاستسلام غير المشروط على حساب الحياة البشرية، حيث لحق بها الدمار. وقد مهدت المقاومة الأخيرة للقادة اليابانيين، الطريق أمام نهاية كارثية للحرب التي طالت، ودفعت إلى معركة أوكيناوا العنيفة، وقصف أكثر من ستين مدينة يابانية، ولجوء الأمريكيين إلى استخدام القنبلة الذرية في هيروشيما وناغازاكي.
تحالف أمريكي – ياباني
خلقت الولايات المتحدة مؤسسات دولية جديدة لأجل الحرب الباردة. وفي آسيا، كان هناك التحالف الياباني-الأمريكي. فاليابان كانت تابعة لنظام الحرب الباردة الأمريكي بشكل واضح. فقد أبدع يوشيدا شيغيرو، الذي شغل موقع رئيس الوزراء الياباني في المرة الأولى (1946-1947) والمرة الثانية (1948-1954)، في قبول التحالف العسكري مع الولايات المتحدة على المدى الطويل، وسمح بإنشاء القواعد الأمريكية في بلاده مقابل إنهاء الاحتلال. وهذا التحالف وضع اليابان إلى جانب الولايات المتحدة في الصراع ضد الكتلة السوفييتية، وشكّل بشكل مؤثر سياق اليابان ما بعد الحرب الباردة. وعلى الرغم من أن الاحتلال انتهى بشكل رسمي في 1952، إلا أن وزير الخارجية جون فوستر دالاس وصف بشكل خاص أن التحالف، في الواقع، أشبه ما يكون باستمرار للاحتلال.
ويشير الكاتب إلى أن التحالف أصبح متناقضاً وملتوياً، مفتقداً إلى الهدف المشترك. بالنسبة للأمريكيين، أصبح وسيلة للتحكم بالسياسة الخارجية اليابانية، ضامناً أن اليابان لن تختار الحيادية في الحرب الباردة، كما تسمح بوجود القواعد العسكرية الأمريكية التي تعد حاسمة جدا في العقيدة الأمريكية للانتشار والتوسع أكثر. والقادة اليابانيون وجدوا بنجاح طرقاً للتأقلم مع خضوعهم للنظام الأمريكي في الحرب الباردة. كما صاغوا استراتيجية فريدة في السعي إلى مصالحهم الاقتصادية في الوقت الذي أذعنوا فيه بشكل سلبي للهيمنة العسكرية والسياسية الأمريكية. ومن خلال الاعتماد على الضمان الأمني الذي قدمته القواعد الأمريكية، وعلى المساعدة الأمريكية السخية، والتكنولوجيا، والوصول إلى الأسواق، كرّس اليابانيون مصادرهم وجهودهم لبناء قوة اقتصادية استعادت لليابان الهيبة والتأثير الدوليين، في حين وجهت انخراطها النشط في صراعات الحرب الباردة لصالح الولايات المتحدة.
الحداثة اليابانية
ومن جهة أخرى يقول الكاتب إن اليابانيين دخلوا في صراع طويل لإعادة صياغة المؤسسات السياسية والاجتماعية والاقتصادية الليبرالية المفروضة من الولايات المتحدة لكي تتلاءم مع ظروفها التاريخية وتفضيلاتها الثقافية. على الرغم من ثقة الأمريكيين بعالمية قيمهم، واعتقادهم أن التقدم سوف يدفع باليابان لتواكب نموذج المؤسسات الأمريكية، إلا أن اليابان التزمت بسياق مختلف، وصاغت طريقها الخاص إلى الحداثة. فبدلاً من تبني مبادئ الاقتصاديات الكلاسيكية وقوانين السوق الحرة والمؤسسات التي أنشأها الاحتلال، قام الاقتصاديون اليابانيون بصياغة استراتيجية اقتصادية ذكية للاستفادة من مبادئ التجارة الحرة للنظام الاقتصادي الدولي الجديد. وهذا دفعهم ليصلوا باقتصادهم إلى مصاف الدول الصناعية المتقدمة، وأصبحت نموذجاً للدول الصاعدة اقتصادياً، وتحدياً للنموذج الاقتصادي الليبرالي، كما قادت إلى الصراعات التجارية اليابانية-الأمريكية الثنائية.
يجد الكاتب أنه رغم التدخل الأمريكي لإعادة بناء الاقتصاد السياسي والمجتمع وفقاً للقيم الغربية الليبرالية، إلا أن اليابان في الوقت نفسه احتفظت بالنظام المحلي الفريد الخاص بها، حتى إن كانت تستوعب ببطء العملية الديمقراطية. فثقل الثقافة اليابانية وتاريخها لا يمكن أن يلغى بنمط عالمي مفترض من التطور.
ويشير الكاتب إلى أنه مع بدايات القرن الواحد والعشرين، بدأ النظام الدولي الذي هيمنت عليه الولايات المتحدة في التآكل، وأن فترة الهيمنة الأمريكية الاستثنائية لليابان ما بعد الحرب أصبحت تختفي. ففي آسيا، باتت القوة في تغير متواصل بشكل لم يسبق له مثيل، إذ إنها تنتقل بسرعة إلى القوى الصاعدة الجديدة في المنطقة، فإطار القواعد والمؤسسات التي أنشئت في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية تشهد تحدياً من قبل الصين، لأنها أصبحت عتيقة الطراز، ولا تعكس التوزيع المتغير للقوة الدولية.
ويضيف: «النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة يخضع لتغيرات أصيلة في الطرق التي يتم فيها اختبار التفوق الأمريكي في منطقة آسيا-الباسيفيك، وتخلق علاقة تبادلية أكثر وجديدة مع اليابان تكون حاسمة للاستراتيجية الأمريكية للإبقاء على قدرتها للقيادة. بالاستجابة إلى مستقبل غير محدد للنظام الإقليمي، تخضع اليابان إلى تغير عميق في سياستها الخارجية، فقادتها أعادوا تفسير دستورهم ليسمح لهم بالدفاع الجماعي، وأسسوا بنية تحتية للأمن القومي، وتبنوا سياسة خارجية استفزازية. بكلمات رئيس وزرائها القومي، شينزو آبي في 2013:«اليابان عائدة». في 2016، عندما كان شينزو آبي يحضر نفسه لزيارة مصالحة تاريخية إلى النصب التذكاري الحربي في بيرل هاربر، وذلك رداً على زيارة أوباما قبل شهور إلى هيروشيما، قال آبي: (أود أن أبيّن أن«عصر ما بعد الحرب»قد وصل إلى نهاية كاملة)».
صياغة تحالف جديد
على مدى الفترة الطويلة ما بعد الحرب – يرى الكاتب – أن كلاً من اليابان والولايات المتحدة اقتربا من بعضهما في نموذجهما الخاص بهما. فقد أخذت الرأسمالية التطورية لليابان طريقاً مختلفاً بشكل مميز عن رأسمالية السوق الحرة الأمريكية، لكن مع تحقيق هدفها في اللحاق بالركب، تبنت اليابان أشكالاً أكثر للاقتصادات الليبرالية. وبالطريقة ذاتها، تقدمت الديمقراطية اليابانية عبر مراحلها الخاصة، حيث إن الأشكال الديمقراطية اكتسبت تأثيراً أكبر، ولو أنها على طريقة يابانية واضحة. وأيضاً، وجد المجتمع الياباني انفتاحاً أكبر على أشكال جديدة من الفردانية من النمط الياباني.
باختصار، ببطء وعلى مراحل، تغيرت اليابان بطرق تبدو أنها تردم درجة الاختلاف بين المجتمع الأمريكي والياباني، حتى أن أمريكا نفسها تتغير. واليابان، على أي حال، تبقى اليابان. ولا تزال مسألة إذا ما كان سيحدث التقاء أكبر في المستقبل بين الجانبين غير واضحة.
ويقول في خاتمة الكتاب: «اليوم نشترك كأمريكيين مع اليابانيين بعديد الأشياء أكثر مما مضى، وبالتالي يمكن أن نأمل في تشكيل نظام عالمي جديد ومستقر يعكس قيمنا الليبرالية، ويحافظ على السلام عبر توازن حيوي للقوة. وأي تشكيل لنظام تشاركي مع شرعية سوف يتطلب استراتيجية طويلة المدى تتسم بالصبر، من شأنها أن تبدأ مع فهم الواقع الناشئ الذي يبين أن آسيا سوف تكون منطقة الحداثات المتعددة».
الكاتب في سطور:
– كينيث بايل أستاذ كرسي هنري إم جاكسون للتاريخ والدراسات الآسيوية في جامعة واشنطن، والرئيس المؤسس للمكتب الوطني للبحوث الآسيوية. وهو مؤلف ومحرّر للعديد من الكتب حول اليابان الحديثة وتاريخها، وفي إحدى الكتب اشترك في تأليفها مع مايكل أرماكوست، السفير السابق في اليابان. من عام 1978 إلى عام 1988 كان الدكتور بايل مديراً لكلية هنري م. جاكسون للدراسات الدولية في جامعة واشنطن. وقد عينه الرئيس بوش الأب لرئاسة لجنة الصداقة بين اليابان والولايات المتحدة (1992-1995)، وهي وكالة فدرالية تدير صندوقاً بقيمة 50 مليون دولار لدعم الدراسات اليابانية في الولايات المتحدة والدراسات الأمريكية في اليابان. وفي الوقت نفسه، شغل منصب الرئيس المشارك لمؤتمر الولايات المتحدة واليابان بشأن التبادل الثقافي والتربوي، وهي المنظمة الثنائية الرسمية للإشراف على العلاقات الثقافية والتعليمية بين البلدين.
تخرج الأستاذ بايل من أكاديمية فيليبس، وأندوفر (1954)، وحصل على شهادة البكالوريوس من كلية هارفارد (1958)، وشهادة الدكتوراه من جامعة جونز هوبكنز (1965). حصل على زمالة مؤسسة فورد في المركز المشترك بين الجامعات للدراسات اليابانية في طوكيو (1961-1964). في عام 1999، قامت حكومة اليابان بتقليده بأهم وسام في الإمبراطورية، وهو وسام الشمس المشرقة، لمساهماته في المنح الدراسية والتبادل الثقافي بين البلدين.