جديد الكتب

اليوم الأخير من الاضطهاد

تأليف: جيفري آر. ويبر
عرض وترجمة: نضال إبراهيم

طوال العقد الأول والنصف من القرن الحادي والعشرين، وضعت أمريكا اللاتينية نفسها في صدارة مناهضة الليبرالية الجديدة في العالم، لكن شهدت السياسة والاقتصاد فيها تغيرات تحت حكم اليسار الجديد، ما دفع مؤلف هذا العمل إلى مناقشة الديناميات السياسية والصراعات التي يقوم عليها التطور المتناقض لحكومات اليسار والحركات الاجتماعية في أمريكا اللاتينية خلال العقدين الماضيين، متسائلاً: ماذا تبقى من المد الوردي (التوجه نحو اليسار) اليوم؟ ما هي علاقته بالحركات الاجتماعية المتفجرة التي دفعته إلى السلطة؟.
يستند الكاتب جيفري آر. ويبر في دراسته على تحليل الاتجاهات في التراكم الرأسمالي من عام 1990 إلى عام 2015، في جميع أنحاء أمريكا اللاتينية وخاصة في الأرجنتين وبوليفيا والبرازيل وتشيلي والإكوادور وفنزويلا. وهو يتناول بالتوضيح قضية اللامساواة هناك في الوقت الراهن بإطار ماركسي ما بعد استعماري، خاصة أنها متجذرة في فهم جديد للطبقة وارتباطاتها المعقدة بالاضطهاد العرقي . ويناقش ويبر في هذا العمل البحثي (الصادر في 336 صفحة من القطع المتوسط عن دار«هيماركيت بوكس» باللغة الإنجليزية) أيضاً مقاومة السكان الأصليين والفلاحين لتوسع أنشطة التعدين الخاصة، والصناعة الزراعية والغاز الطبيعي والنفط.

الاستقلال الثاني

يشير الكاتب في مقدمته بعنوان «الاستقلال الثاني لأمريكا اللاتينية» إلى أن استقلال الإكوادور من إسبانيا في أوائل القرن التاسع عشر لم يجلب لها ثورة اجتماعية. فالتراتبية الهرمية العنصرية وغير المتساوية للمجتمع الاستعماري لم ينقلب على رأسه. بل بدلاً من ذلك، فإن الأحفاد النخبويين للمستعمرين الإسبان حكموا بالنيابة عنهم، وليس في خدمة التاج الإسباني. بالنسبة لهؤلاء الذين كانوا تحتهم، بقيت الكثير من القضايا والمسائل على شكلها الأوّلي. لذلك ظهر شعار مثّل فترة ما بعد الاستقلال وهو: اليوم الأخير من الاضطهاد، واليوم الأول من الحكم نفسه. وهو عنوان الكتاب، الذي يشير إلى أن الحكم نفسه أعيد، وإن كان في الظاهر مختلفاً.
ويقول الكاتب: «هذا التعبير، وإن كان في شكل جديد، يسلط الضوء على شيء أساسي في سياسة العقد الأول والنصف من القرن العشرين بالنسبة لأمريكا اللاتينية. فقد شهدت السنوات الأولى من الألفية الجديدة أزمة اقتصادية وسياسية استثنائية لليبرالية الجديدة سهلت استعادة قوية لنشاط الحركات الاجتماعية خارج البرلمان في أنحاء أمريكا اللاتينية، حيث حدثت الإضرابات، والاستيلاء على الأراضي، وأقيمت حواجز من قبل العمال العاطلين، وتم الاستيلاء على المصانع، واندلعت انتفاضات للسكان الأصليين. وفي منتصف سنوات ال 2000، ترجم هذا الفوران العام إلى نمط صامت في قاعات البرلمانات وقصور الرئاسة في العديد من بلدان أمريكا الجنوبية، حيث وصلت أحزاب اليسار ووسط اليسار عبر الانتخابات إلى سدة الحكم.
بالتوازي مع هذه الديناميات السياسية، كانت الأزمة الاقتصادية لليبرالية الجديدة في المنطقة محجوبة بفعل المد المتصاعد للازدهار الذي كانت الصين تقوده في أسعار السلع الأساسية على المستوى الدولي. ومع تغيرات طفيفة في الأنظمة الضريبية وأسعار الفائدة على السلع الأساسية – التعدين، النفط والغاز الطبيعي، والمنتجات الصناعية الخاصة بالزراعة – شهدت حكومات اليسار زيادات هائلة في العائدات في خزانات الدولة، حتى أن الشركات الرأسمالية المحلية ومتعددة الجنسيات استمتعت بارتفاع صافي الأرباح. وقاد التوزيع المستهدف عبر برامج التحويلات النقدية ومبادرات الرفاه الاجتماعي الأخرى، إلى جانب نسب التوظيف العالية، إلى انخفاض معدلات الفقر، حتى أن الانخفاضات في عدم مساواة الدخل في أجزاء من أمريكا اللاتينية كانت محكومة من قبل ظلال اليسار المتعددة.

الظلام السياسي

رغم المتغيرات الحاصلة، لم يتحدَّ اليسار في أمريكا اللاتينية التركيبات الطبقية الأساسية لمجتمعاتها أو أنظمة التراكم الرأسمالي التي أساساً تنتج الأنماط الأساسية المتزامنة من الفقر والثروة، والحياة الفاخرة إلى جانب البؤس. ويشير الكاتب إلى أن الازدهار في أسعار السلع الأساسية وإعادة توجيهها إلى الطبقات الشعبية ساعدت حكومات اليسار ووسط اليسار على إخفاء الهياكل الأساسية للاستمرارية، وعلى الصعيد السياسي، تم توجيه الحركات الاجتماعية إلى متاهة أجهزة الدولة، وتم خلالها نزع أسلحتها بشكل كبير في هذه العملية.
ويضيف معلقاً: ثم دخلت الرأسمالية العالمية في أزمتها الحادة الأخيرة في 2007-2008. لم يكن التأثير على أمريكا اللاتينية على الفور. في الحقيقة، بعد انكماش في النمو في 2009، أشارت السنتان اللاحقتان إلى أن المنطقة نجت من الديناميات العالمية بطريقة ما. وبحلول 2012، تباطأت الصين بشكل دراماتيكي على العموم، وكانت الولايات المتحدة ومنطقة اليورو في حالة من التشويش، وأسعار السلع الأساسية التي فعلت الكثير لأجل جعل أمريكا الجنوبية في حالة صعود بدأت في الهبوط السريع. وسياسة التقشف التي دخلت بشكل سريع إلى أمريكا الشمالية وأوروبا (خاصة أوروبا الجنوبية واليونان على وجه التحديد) كانت تشير حينها إلى أن رياح الاقتصاد السياسي لأمريكا اللاتينية بدأت في الهبوب مرة أخرى.
ويقول الكاتب إنه في هذه المرة، بدأت حكومات اليسار ووسط اليسار باتخاذ قرارات سياسة التقشف المتعلقة بالطبقة. ومع هبوط عوائد الدولة، بدأت – مع التشعب مرة أخرى في العديد من المسائل – بإضفاء الطابع الاجتماعي على تكاليف الانخفاضات في خزانات الدولة على صعيد الغالبية العظمى، بدلاً من التوجه إلى الأثرياء. ودعموا المستولين على الفائض بدلاً من المنتجين المباشرين لثروة أمريكا اللاتينية.
هذه القرارات الطبقية غالباً ما كانت تأخذ شكل التخفيضات في البرامج الاجتماعية التي كانت قد برزت خلال فترة انتعاش السلع الأساسية. وفي مقابل تطرف تحوّل اليسار في سياق الأزمة الناشئة، تكيفت حكومات اليسار ووسط اليسار بشكل كبير مع ضرورات رأس المال. لكن في الوقت الذي ازدهر فيه رأس المال تحت حكم العديد من هذه الحكومات، لم يكن اليسار الجديد هو الاختيار الأول للمستثمرين في القطاع الخاص. فقد تحسست هذه الحكومات الدماء وبدأت تتوجه إلى القتل، حيث بدأت السياسات الصحيحة الجديدة تتجه نحو الانحدار في أشكال برلمانية أو خارج البرلمان في عموم المنطقة. وبدأ رأس المال ينتعش في الظلام السياسي، وباتباع سياسات التقشف فقدت حكومات اليسار الكثير من قواعدها الشعبية.

توازن القوى

إلى جانب المقدمة التي تعتبر الفصل الأول من العمل، هناك تسعة فصول، نبدأ بالفصل الثاني بعنوان «الأزمة العالمية وتوجهات أمريكا اللاتينية: الاقتصاد السياسي لليسار الجديد في أمريكا اللاتينية» الذي يعاين فيه الكاتب، الديناميات الاقتصادية والسياسية لليسار في أمريكا اللاتينية من أوائل تسعينات القرن الماضي إلى الوقت الراهن، ويقيس توازن القوى المتغير على الصعيد – العسكري، الاقتصادي، الإيديولوجي، الاجتماعي- بين الطبقات الشعبية الحضرية والريفية والمجموعات المضطهدة، والطبقات الحاكمة المحلية، والإمبريالية عبر المراحل المختلفة. ويرسم الكاتب خريطة سنوات التسعينات كفترة من الهيمنة الليبرالية الجديدة وتفكك اليسار قبل التحول إلى الأزمة الاقتصادية لليبرالية الجديدة بين 1998 و2002. ويظهر كيف أن هذه الأزمة الاقتصادية تحولت إلى أزمة سياسية عبر صعود الحركات الاجتماعية خارج البرلمان وتفكك اليسار في أوائل الألفية الثالثة. كما يبين دخول حركة اليسار من خارج البرلمان إلى دهاليز السلطة عبر انتخاب حكومات اليسار ووسط اليسار في أوائل الألفية، وذلك في سياق انتعاش السلع الأساسية.
أما الفصل الثالث بعنوان «اللامساواة المعاصرة في أمريكا اللاتينية: الصراع الطبقي، إنهاء الاستعمار، وحدود المواطنة الليبرالية» يتناول فيه الباحث الجدالات النظرية المعاصرة حول الأنماط القائمة من اللامساواة في أمريكا اللاتينية المعاصرة، ويقترح تقديم إطار نظري بديل يجمع بين الماركسية وما بعد الاستعمار لمقاربة اللامساواة، ومحاولة فهم تعقيدات العلاقات الطبقية وارتباطاتها الاجتماعية ضمن رأسمالية أمريكا اللاتينية المعاصرة.
ويستكشف الفصل الرابع بعنوان «المجتمع الأصلي و«الكائن الحي»: خوسيه كارلوس مارياتيغوي، الماركسية الرومانسية، الرأسمالية المستخرجة في الأنديز»، العلاقة المعقدة بين الماركسية والرومانسية في عمل المفكر السياسي البيروفي خوسيه كارلوس مارياتيغوي في أوائل القرن العشرين، إذ يجد الكاتب أن العودة إلى هذا المفكر تسمح لنا بقراءة معارضة اليسار والنشاط الموجه ضدهم، كما يتطرق في هذا الفصل إلى سير كتّاب ومفكرين آخرين مثل مايكل لوي وفيليب كويسبه.

حركات شعبية

في الفصل الخامس بعنوان «اليسار الجديد في تشيلي: أكثر من مجرد حركة طلابية» يتوقف الكاتب عند منشأ ونتائج تمردات العمال – الطلاب في 2011 في تشيلي، ويشير إلى أن هذا الحراك حدد فجوة أو تغييراً (ما قبل وما بعد) في التاريخ التشيلي المعاصر. ويعاين الفصل السادس بعنوان «إيفو موراليس والاقتصاد السياسي للثورة السلبية في بوليفيا 2006-2016» ديناميكيات أسواق العمل الحضرية لبوليفيا تحت حكم موراليس كمؤشر تم عبره تحديد الشخصية الطبقية لتلك الإدارة، ويشير الكاتب إلى أنه في الوقت الذي كانت حكومة موراليس تحكم باسم العمال والفلاحين الأصليين، شهد الاقتصاد السياسي في البلاد منذ 2006 إخضاعاً مستمراً لهذه الطبقات.
أما الفصل السابع بعنوان «المسيرة الطويلة نحو الشرق: إيفو موراليس وتماسك الرأسمالية الزراعية في بوليفيا» يتعامل أيضاً مع بوليفيا، لكن هذه المرة من موقع مراقبة الريف، إذ يستكشف التطورات التاريخية الحاصلة في الرأسمالية الزراعية عبر ثلاث مراحل تاريخية هي: أولاً من 1952-1985 فترة التصنيع الوطني الذي حل محل الواردات. ثانياً: فترة إعادة الهيكلة الليبرالية الجديدة بين 1985 و2000. ثالثاً فترة التنموية الجديدة المتنازع عليها تحت حكم موراليس من 2006 إلى 2016.
ويتجه الفصل الثامن بعنوان «القوى المزدوجة والتركيبات الطبقية والشعب الفنزويلي: انعكاسات«نحن خلقنا تشافيز»، إلى فنزويلا ليقدم تحليلاً عن العملية البوليفارية تحت حكم تشافيز من 1999 إلى 2013 عبر الكتاب الاستقصائي المؤثر« نحن خلقنا تشافيز: تاريخ الشعب في الثورة الفنزويلية» لمؤلفه الأمريكي جورج سيكاريلو- ماهر، والذي يجده الكاتب أهم الكتب بالإنجليزية التي تقترح إطاراً معادياً للرأسمالية في فهم العملية البوليفارية في فنزويلا المعاصرة.
وفي الفصل التاسع الذي يعد الخاتمة بعنوان « من الهيمنة إلى طريق مسدود» يقول فيه الكاتب إن اللحظة السياسية الراهنة في أمريكا اللاتينية من المحتمل أن تتحول إلى أكثر سواداً قبل أن تصبح مشرقة، ويضيف أن النتيجة لم تقرر بعد، والمستقبل لا يزال في حالة من الحركة، وما تحتاجه شعوب أمريكا اللاتينية هو النظر إلى اليسار لتسجيل نبض التطورات السياسية في السنوات المقبلة والتركيز على التوازن الإيديولوجي والسياسي والتنظيمي للقوى خارج القاعات المؤسساتية للقيادات والسياسات الاحترافية الرسمية، وذلك بالقدر نفسه لما يحدث داخل الدهاليز الواضحة للسلطة.

نبذة عن الكاتب:

جيفري آر. ويبر محاضر في كلية السياسة والعلاقات الدولية بجامعة كوين ماري في لندن. وهو مؤلف«أكتوبر الأحمر»، و«من التمرد إلى الإصلاح في بوليفيا». وشارك مع الباحث تود جوردون في تأليف«دم الاستخراج: الإمبريالية الكندية في أمريكا اللاتينية». وتنقل خلال سنوات عديدة بين كندا وأوروبا ومختلف بلدان أمريكا اللاتينية لإجراء دراسات ميدانية تتعلق بأبحاثه، وركز فيها على الجانب التاريخي بشكل عام، وارتباطها بالسياسة الحالية القائمة، وينشر باستمرار في المجلات والدوريات السياسية.

زر الذهاب إلى الأعلى