بو خالد.. عبد الله عمران الغائب الحاضر

بقلم: عبدالغفار حسين
في يوم 7 يناير عام 2014، كنا أربعة رفاق، بوخالد عبدالله عمران، وبومحمد سعيد الرقباني، وبوأحمد صالح العكلة، وكاتب هذه السطور، نزور مدينة بومبي أو مومباي كما يطلق عليها حالياً.. ومومباي هي عاصمة الهند التجارية والاقتصادية، ولها في نفوس الخليجيين مكانة لا تضاهيها مكانة مدينة أخرى.
وكنا نحن الأربعة تجمعنا الألفة، ويجمعنا حب هذه المدينة التي تعتبر قلب الهند النابض، وفيها كل ما يحلو للعين أن تراه من الاعتدال والتناقض وما يسر وما لا يسر، في هذه المدينة الصاخبة العاجّة بما يربو على عشرين مليوناً من البشر، يرى المرء مظاهر الثراء الفاحش من بيوت ومنازل تعلوها الأبهة، وعمارات فخمة عالية التشييد والبناء، والفنادق ذات الجودة الفائقة، وأناس يتقاطر الثراء من ملامحهم إلى فقر مدقع تقرأ سيماءه على الوجوه والأجساد شبه العارية، وقد أضناها الجوع وسوء الغذاء، تعيش في مآوي الصفيح البالي وجحور بقايا المواسير المرمية على قارعات الطرق من مخلفات الصرف الصحي، إلى صفوف آدمية في طوابير تنتظر الحصول على قطعة فيها ما قد يسد الرمق، ولكنه لا يسمن ولا يغني من جوع.
مناظر متناقضة في هذه المدينة التي تعتبر أكبر ميناء لسفن القارة الهندية، والتي تشمل الهند وباكستان وبنجلاديش وجزر سيلان أو سيريلانكا.. وبجانب ما ذكرته من رغد العيش وسوئه في أحوال هذه المدينة، فإن الجهود في السنوات الماضية بذلت من أجل أن يرتفع مستوى العيش عند الطبقة الفقيرة والكادحة في كل أنحاء الهند.. ويظهر أن المناظر السلبية قد بدأت في الاختفاء شيئاً فشيئاً.
وفي هذه المدينة، مدينة العجائب، بومبي، يعيش العديد من الإثنيات والطوائف.. وأهمها طوائف الهندوس والمسلمين والبارسيين الذين تعود أصولهم إلى المجوس من الفرس، الذين لجؤوا إلى الهند فِراراً عند دخول المسلمين بلاد فارس سنة 642م.. وفي بومبي كما في سائر الهند، علماء في جميع فروع المعرفة، وتعتبر الهند اليوم من الدول التي تقارع بعلمائها وإمكانياتها الفنية والمادية أكبر دول العالم، ويتوقع أن تتصدر الهند في مقدمة الشعوب المتطورة.
والشيء المميز في هذه المدينة، أو قل في بلاد الهند كلها هو العيش الموائم بين الناس، ويساعد على هذه المواءمة، النظام الإداري الديمقراطي العريق وسيادة القانون، إضافة إلى طبيعة الإنسان الهندي المسالمة وإعطاء كل ذي حق حقه.
ونعود إلى الرفقة، وإلى بوخالد عبدالله عمران، الذي أضاف إلينا البهجة بروحه المرحة وحيويته وبشاشته وأريحيته، وايثاره الرفاق على نفسه، رحمه الله، مما زادنا سروراً وهناء.. وعدنا من هذه الرحلة الممتعة إلى البلاد، ولم يدر بخلد أي واحد منا أن الأيام تخبئ صدمة مفجعة ووجعاً مؤلماً، مازلنا بعد مرور أربع سنوات تعاودنا الأوجاع والآلام بوخزها، وتنكأ الجرح الغائر الذي سببه الرحيل المفاجئ غير المتوقع، بعد رجوعنا من الهند بحوالي أسبوع، لرفيق عزيز كأبي خالد عبدالله عمران، وهو في قمة حيويته ونشاطه البدني والذهني.
والحقيقة أن من عرف منا الأخوين والشقيقين، أبا نجلاء، تريم عمران، وأبا خالد، عبدالله عمران، رحمهما الله، عن قرب، كما عرفتهما وصاحبتهما شخصياً سنين عديدة، ومدى ما في هاتين الشخصيتين من قيم معنوية وأخلاقية متعددة الجوانب، يدرك فدح مصيبة فقدهما الواحد بعد الآخر، وهما بالكاد يصلان إلى نهاية أشواط الشباب، وفداحة المصيبة تزداد عمقاً واتساعاً على نفسية رفاق مثلنا، كان من النادر أن يتفرقوا في الحضر والسفر.
ولقد رحل عبدالله عمران، في نهاية شهر يناير 2014، وكانت قبلها بأيام تلفحنا نشوة الرفقة، رفقة السفر الهندية، بسرورها واستبدل هذا السرور للأسف فجأة بفجيعة، ليس لأن الموت أمر غير عادي، ولكن فجيعته تزداد وتؤلم عندما يخطف الموت رجالاً كعبدالله عمران، كانت الحاجة إلى وجوده مجتمعياً ماسة، وضرورية في مجتمع الإمارات، ومن الصعوبة بمكان أن يملأ غيره الفراغ الذي تركه عبدالله عمران في وقت قصير.. وقد قلت في مناسبة سابقة وفي كتابي الذي كتبته عن بوخالد، إن عبدالله عمران كان مجموعة من الرجال تتجسد في رجل واحد، يبرز شامخاً إذا أطلت عجاف الأيام برؤوسها، ومن المؤسف أن مثل هذا الواحد لا تجود به الأيام في كل وقت أو زمان..
وبالأمس القريب كنت في وداع صديق التقطه الموت، ووقفت على اللحد الذي نزل فيه، وأقرباؤه ينثرون على تابوته باقات من الورود البيضاء ويرشونه بماء الورود وعطورها، وعرفت أن هذه العادة من المراسم، هي عادة جميلة يودع بها هؤلاء القوم موتاهم، ولكن الراقد في التابوت كان في سبات عميق لم يستيقظ ليرى ما يدور حوله، ويبدو أن تعب الحياة على ظهر هذه البسيطة أثقل كاهل صاحبنا فراح يغطّ في رقدته الأبدية إلى أن يشاء الله، مستريحاً من رؤية أدران الدنيا وكدرها.
لقد أصاب فيلسوفنا الكبير أبو العلاء المعري عندما أشار..
تَعَبٌ كُلّها الحَياةُ فَما
أعْجَبُ إلاّ مِنْ راغبٍ في ازْديادِ
ضَجْعَةُ المَوْتِ رَقْدَةٌ يستريحُ
الجِسْمُ فيها والعَيشُ مِثلُ السّهادِ
agh@corys.ae