بين ثقافتين

خيري منصور
الاعتدال والوسطية في كل المجالات هما جناحا العقل اللذان يحلق بهما عالياً، لكن دون أن ينفصل عن جاذبية الواقع. وهما النقيض للتطرف والغلو اللذين غالباً ما ينتهيان إلى القطيعة عن الواقع الحي، ويصبح كل ما يناديان به تعجيزياً. وفي الحالتين ثمة ثقافتان تسود إحداهما في فترة ما وتشيع مناخات مشبعة بالتوتر وتصبح بالتالي كل الزوايا حادة.
لكن الثقافة الأخرى تشيع مناخات مشبعة بروح التعايش والتسامح المتبادل الذي لا يقتصر على طرف واحد هو المهيمن.
وبالعودة إلى التاريخ على اختلاف عصوره نجد أن ثقافة الاعتدال والتوازن أفرزت منجزات فنية ومعرفية عَبَرَت الأزمنة وعاشت بفضل ما لديها من هواجس وشجون إنسانية، بينما لم تفرز ثقافة التطرف والغلو غير فقه أعمى ومفاهيم دوغمائية تنتهي بالضرورة إلى آفاق مسدودة وثنائيات متقابلة إضافة إلى نزعات احتكارية وإقصائية للآخر المختلف!
وتاريخنا العربي شأن كل تواريخ الأمم مر بمراحل سادت فيها ثقافة التطرف، فكانت عقيمة لم تفرز غير النزاعات على طريقة الفرق كلها في النار باستثناء واحدة هي الناجية!
لكن المراحل التي ساد فيها التعايش اغْتَنت الحياة والثقافة معاً من التنوع، وكان التكامل هو البديل للتآكل، وقد تكون خسائرنا كعرب بكل المقاييس المادية والمعنوية في هذا العصر ناجمة عن دفع ثقافة التطرف والإقصاء إلى نهاياتها ما أدى إلى حروب أهلية وشبه أهلية، منها ما انفجر فعلاً وأتى على الأخضر واليابس، ومنها ما بقي يراوح في نطاق الحروب الأهلية الباردة!
ومن لُدغوا مراراً من ذلك الجحر لابد أنهم تلقحوا ضد تكرار اللدغ، اللهم إلا إذا كان هناك من حولوا التطرف والغلو إلى نمط إنتاج. وأدمنوا رائحة الدماء وسحابات الغبار والدخان في سماء بلدانهم!
والقرائن التي توحي بنهايات ثقافة التطرف عديدة الآن، ويجزم حاصل جمعها بأن فجر الاعتدال والتعايش أصبح وشيكاً.