تاكسي علي
يوسف أبو لوز
في ستينات القرن العشرين، راجت عبارة، لا أعرف على وجه الدقة من أطلقها، تقول: «القاهرة تكتب، وبيروت تطبع، وبغداد تقرأ». وعلى أيّ حال، فقد تغيّرت اليوم مواقع أو مراكز الكتابة، والطباعة أي النشر، ولكن لا يمكن الحكم بالقطع على شعب أو بلد بوصفه يقرأ أكثر، أو يقرأ أقل، فالقراءة ثقافة وسلوك وعادة، وتتصل القراءة أيضاً بالتعليم وأثره في المجتمعات، كما تتصل بدرجة الوعي العام بثقافة القراءة، وتسهم في رفع هذا الوعي أكثر من وسيلة، على رأسها وسائل الإعلام.
عودة إلى عبارة الستينات، فالقاهرة ما زالت تكتب، ولكن هل هي كتابة ذلك الزمن الذي يطلق عليه المصريون «الزمن الذهبي» أو «الزمن الجميل»؟ هل الرواية المصرية اليوم على سبيل المثال هي في مستوى رواية نجيب محفوظ، وقصة يوسف إدريس، ومسرح توفيق الحكيم ونقد رجاء النقاش؟ أسئلة حرّة في إطلاقها، ولكن الإجابة دائماً تحتاج إلى ذاكرة موضوعية، ولكي تكون موضوعية عليها أن تكون ذاكرة متخلّصة من ذلك المرض الجميل الذي اسمه «الحنين».
أما بيروت فهي تطبع، وما زالت تطبع، ولكن من يملك أن يضبط «الحنين»؟ وكم من دار نشر بيروتية أو عربية يمكن أن تمنع الذاكرة من استعادة زمن نشري بيروتي كانت دوره: «الآداب»، و«العودة»، و«ابن رشد».
ولكن هل من وقت للقراءة في بغداد؟ إن كل هذه التداعيات وردت هكذا وبشيء من الحنين بعدما قرأت تقريراً أمس الأول في «الشرق الأوسط» عن شاب عراقي طالب في المدرسة الثانوية اسمه علي مؤيد قاسم يعمل سائقاً لسيارة أجرة، وبابتسامة لطيفة، كما جاء في التقرير، يعرض السائق الذي يعمل في مدينة البصرة كتاباً مجانياً على راكب سيارته ليقرأ مدة عشر دقائق متصلة طالباً منه ألاّ يستخدم هاتفه أثناء وجوده في السيارة التي أصبحت تعرف في البصرة ب «تاكسي القراءة».
علي مؤيد قاسم في العشرين من عمره يحمل كتباً في سيارته يقرأها عند نقاط ازدحام السير أو خلال انتظاره أحد زبائنه، أي أن سيارة الأجرة تحوّلت إلى مكتبة عامّة متنقلة. وبغداد التي كانت تقرأ في أيام الجواهري وبدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي تقرأ أيضاً في أيام «تاكسي علي» حتى ولو كانت قراءة لعشر دقائق. قراءة في تاكسي أجرة، أو قراءة على «الماشي»، أو قراءة «على الواقف»، المهم أنها قراءة تعيد إلى مرضى الحنين زمنهم الجميل.
yabolouz@gmail.com