تاورغاء وليبيا الضائعة

مفتاح شعيب
تقدم محنة المهجرين من بلدة تاورغاء الليبية، صورة مأساوية عن الأوضاع الإنسانية المزرية في هذا البلد، وتكشف بيانات متكاملة عن ملفات هائلة ما زالت تعوق الانتقال إلى ما هو أبعد، وتبيّن ضعف الإرادة في تنفيذ الالتزامات الممكنة.
فقبل أقل من شهرين أعلنت حكومة الوفاق الوطني المقيمة في طرابلس، عن اتفاق بعد مفاوضات لأكثر من عام، يقضي بعودة المهجّرين إلى ديارهم، وحين جاء اليوم الموعود، نكصت الميليشيات المسيطرة على المنطقة، عن الاتفاق لتبقى العائلات في العراء.
أطراف في داخل ليبيا وخارجها تراهن بشدة على نجاح هذا الاتفاق؛ لما له من تداعيات إيجابية، فطيّ صفحة تاورغاء سيسمح بإطلاق مسلسل من المصالحات بين المناطق والقبائل المتنافرة، في خطوة تحتاجها البلاد في هذا التوقيت، تزامناً مع المساعي الحثيثة لإجراء انتخابات عامة مفترضة هذا العام.
فحل مشكلة تاورغاء يعني أن الليبيين قادرون على تجاوز جراحهم، مهما كانت مؤلمة ودامية، على الرغم من أن الانتهاكات وعمليات التطهير بحق أهالي البلدة، التي كان أهلها محسوبون على نظام العقيد الراحل معمر القذافي، كانت «جرائم ضد الإنسانية»، ويفترض ألاَّ يفلت مرتكبوها من العقاب، وهم أساساً الميليشيات المتطرفة التي جرى تسليحها من مصراتة في عام 2011، إبان الحرب الأهلية.
وبمعايير «الثورة» قد تفهم مواجهة أجهزة النظام وقواته، أما التعرض للمدنيين نساء وأطفالاً وشيوخاً، بتهجيرهم وهدم بيوتهم، بعد قتل أغلب رجالهم، فهذا جرح لا يمكن أن يندمل، و«الحق الإنساني» يجب ألاَّ يسقط بالتقادم، طالما المشتبه بهم والمحرضون على الجرائم موجودون، ولم يتغيروا.
في أواخر ديسمبر الماضي، زف رئيس حكومة الوفاق فايز السراج، بشرى إلى الليبيين عشية العام الجديد، عندما أعلن عن الاتفاق حول تاورغاء. ولأن حكومة الوفاق لا تمتلك سلطة فرض القانون، تجرأت عليها الميليشيات مجدداً، وقررت منع عودة الأهالي إلى ديارهم، بحجة أن بعضهم يحمل «نوايا سيئة»، ويتحضر «للأخذ بالثأر». ومن المؤسف أن الحكومة وبعثة الأمم المتحدة بقيتا تتفرجان، ولم تجدا ما تدافعان به في وجه هذه الأزمة.
وحتى الوعود الجديدة التي صدرت من طرابلس لإنقاذ الاتفاق، ستظل مجرد كلام، طالما أن سلطة التنفيذ تقع بأيدي ميليشيات ما زالت لا تعترف بالدولة، وأغلبها متواطئ مع الإرهاب وقوى دولية معادية للشعب الليبي، وصنعت له «فخ الثورة» ليدمر نفسه بنفسه، ويقضي على مقدراته وأسباب حياته.
أغلب المراقبين مقتنعون بأن الوضع الليبي محتاج للكثير من المتابعة والجهد، ففي هذا الشهر تمر سبع سنوات مكتملة على انهيار البلاد، ولا يوجد في الأفق ما يبشر بخير، وهناك من يرى أن الانتخابات المقررة هذا العام، ستكون حاسمة فعلاً، وستقلب المشهد السياسي، ولكن نتائجها السياسية لن تجلب الاستقرار على الفور؛ لأن الاستقرار الحقيقي في ليبيا دونه شروط، ولن يتم إلا بحرب شاملة تشنّها الدولة الليبية ضد الميليشيات والجماعات الإرهابية والخارجين على القانون، والتدخلات الخارجية.
وأظهرت تجربة السنوات الماضية، أن تعدد الرؤوس لا ينتج غير الانقسام، وكثرة الأطراف المسلحة تؤسس للخراب الدائم. ويمكن أن تكون تاورغاء ومحنة أهلها، نموذجاً صارخاً لضياع البوصلة الوطنية وصعوبة الاهتداء إلى الاتجاه الصحيح.
chouaibmeftah@gmail.com