تحدّيات أوروبية غير «بريكست»
إيان بريمر*
مع انصراف كل الانتباه إلى العبث التشريعي الذي لا ينتهي، والجروح الذاتية التي أحدثها قرار خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكست)، من السهل غضُّ الطرْف عن التحديات طويلة الأمد التي تواجه أوروبا.
والاتحاد الأوروبي، لديه الكثير ممّا يفخر به. ووضْعُه كأكبر سوق مشتركة في العالم يجعله قوة تنظيمية عظمى، ولا سيّما في تقنيات المعلومات والاتصالات في العصر الرقمي. والقليل من شركات التقنية العملاقة موجود في أوروبا، ولكن العديد من مستهلكيها موجود هناك. وهذا يدعو البيروقراطيين ذوي الكفاءة العالية ليضعوا قواعد لا يمكن لعمالقة التكنولوجيا الأمريكيين وغيرهم تجاهلها.
ومع ذلك، توجد انقسامات متنامية بين الدول الأعضاء حول القيم والأولويات. فأربع من دول الاتحاد الأوروبي (إيطاليا، بولندا، المجر والنمسا) لديها الآن حكومات شعبوية تتحدى بطرق مختلفة، العقيدة التقليدية للاتحاد الأوروبي بشأن القضايا الداخلية مثل سياسة الهجرة. وتشكل حكومتا بولندا والمجر تحديات مباشرة لتعريفات الاتحاد الأوروبي لسيادة القانون بشأن حرية التعبير والاستقلال القضائي، على سبيل المثال.
ومع ذلك، فإن بعض أكبر التحديات لأوروبا تأتي من الخارج. أولاً، لقد بلغ التحالف عبر الأطلسي أدنى مستوىً له منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ولا توجد ضمانة على أن الأمور سوف تتحسن بشكل ملحوظ عندما يغادر دونالد ترامب مسرح الأحداث. من السهل نسيان عمق الانقسامات بين إدارة ليندون جونسون وشارل ديغول حول الناتو، والعداء الأوروبي العام تجاه رونالد ريغان، وردود فعل فرنسا وألمانيا على حرب جورج دبليو بوش على العراق. ولكن ظهور جيليْن من الأمريكيين والأوروبيين لم يبلغا من العمر ما يكفي لتذكُّر الحرب الباردة، يخلق درجة جديدة من الصعوبة في الحفاظ على سلامة التحالف.
وهذا مهمٌّ جزئيّاً لأن موسكو تشكل الآن أنواعاً جديدة من التهديدات. فحتى وقت قريب، كان التأثير الروسي في أوروبا مقصوراً بشكل رئيسي على الطلب الأوروبي على الطاقة الروسية، حيث كانت حكومات الدول الأكثر اعتماداً على الطاقة الروسية، أكثر وُدّاً تجاه حكومة فلاديمير بوتين، والدول الأقل اعتماداً أكثر تشككاً. ولكن استثمار روسيا ودعمها للحركات المختلفة المتشككة بأوروبا، يغرسان موسكو في عمق الحياة السياسية الداخلية للدول الأوروبية.
وقد حذر المسؤولون الأوروبيون علناً من أن روسيا تنوي محاولة التأثير في انتخابات مايو/ أيار للبرلمان الأوروبي من خلال دعم الشعبويين المستعدين لتحدي الإجماع الأوروبي على القيم السياسية، ولكنْ لا يوجد الكثير ممّا تستطيع بروكسل فعله ردّاً على ذلك. كما أن انسحاب الولايات المتحدة وروسيا من معاهدة القوى النووية متوسطة المدى، سوف يجدد سباق التسلح الذي يقوّض أمن أوروبا بشكل مباشر.
وليست روسيا التحدي الوحيد، أو حتى الأعقد، الذي تواجهه أوروبا. وعلى وجه الخصوص، فإن «الحرب الباردة التكنولوجية» المقبلة بين الولايات المتحدة والصين سترغم العديد من دول الاتحاد الأوربي على الانحياز إلى واشنطن لحماية سيادة القانون وحقوق المستهلك ضدّ استخدام الدولة الصينية للبيانات لحماية نموذجها السياسي.
ولكن تجارة الصين مع العديد من البلدان الأوروبية، واستثماراتها فيها، تتجاوزان تجارة واستثمارات أمريكا، والفجوة تتسع. وسوف تتردد الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، التي يتزايد اعتمادها على الاستثمارات الصينية في الامتثال للنهج التنظيمي الأوسع للاتحاد الأوروبي تجاه القطاع التكنولوجي، وهو ما يخلق فجوة مهمة أخرى في سياسات الاتحاد الأوروبي التي تقوض نفوذ أوروبا العالمي.
وأخيراً هنالك التحدي الخاص الذي تشكله إفريقيا. فقد أثبتت الهجرة أنها أكثر القضايا إثارة للانقسام في هذا الجيل في السياسة الأوروبية. وخلقت أزمة المهاجرين لعام 2015-2016 أحزاباً سياسية شعبوية جديدة، وجددت شباب أحزاب أخرى قديمة، وحولت التوازن السياسي للسلطة في كل بلد في الاتحاد الأوروبي تقريباً. لأن تزايد أعداد الشباب الأفارقة، الباحثين عن حياة أفضل، وعجز الحكومات الأفريقية عن المواكبة، والمصادر الأخرى لعدم الاستقرار، سوف تغري مزيداً من المهاجرين على سلوك هذا السبيل.
وقد تقدّم أكثر من مليون إفريقي بطلب اللجوء في أوروبا منذ عام 2010. وتبيّن الدراسات الأخيرة أن العديد من الأفارقة الذين ما زالوا يأملون في مغادرة بلدانهم قريباً يقولون: إنهم ينوون الانتقال إلى مكان آخر داخل إفريقيا، ولكن أكثر من رُبعهم يقولون: إنهم يريدون الوصول إلى أوروبا. ومن السهل أن نتخيل أن العدد الهائل من طالبي اللجوء سوف يخلق فرصاً جديدة للشعبويين المناوئين للهجرة – ولا سيّما في دول الاتحاد الأوروبي الجنوبية، حيث يصل معظم المهاجرين أولاً- لتقويض سلطة المؤسسات الأوروبية. وهذا صحيح بوجه خاص عندما ترفض الدول الأخرى الأعضاء في الاتحاد الأوروبي المساعدة في تقاسم أعباء التعامل مع أوضاع المهاجرين واستيعابهم.
*رئيس شركة «مجموعة أوراسيا»
(لتخمين المخاطر السياسية)
موقع: صحيفة «هندوستان تايمز»