تركيا.. و«عتبة» الغرب

د. نسيم الخوري
طرح الرئيس الفرنسي جاك شيراك في 3 سبتمبر أيلول 2005 سؤالاً للتفكير على وزراء خارجية الدول الأوروبية ال25 عند نهاية مباحثاتهم في لوكسمبورج في بندٍ يتعلّق بانضمام تركيا إلى الاتّحاد الأوروبي: «من يضمن ألاّ تتحوّل المنطقة بأسرها إلى الأصولية إذا رفض الأوروبيون الاعتراف بتركيّا؟.
السؤال خطر وضخم عربيّاً ودولياً لأنّ المنطقة قد اكتوت بالأصولية ومشتقاتها فعلاً عبر كوارث «الربيع العربي». ولهذا السؤال أبعاد أمريكية وأوروبية جذّابة، وبإعادة طرحه، يتمكن الباحث من كشف بعض الأغطية عن مواقع العرب والمسلمين وحاضرهم، وما كان يخطط لهم في ميزان السياسة الدولية، فيطلّ على حروبهم الكثيرة الحالية المتنقّلة وربّما المقبلة في بلادهم، خصوصاً وأنّ تركيا اعتادت أن تُلبس الإسلام الياقة المنشّاة والقفازات الدبلوماسية الغربية فتداري جوانبها، فلا تقول إلاّ نعم وهي تمشي متثاقلة على رؤوس أصابعها فوق الدرب المستحيلة نحو عتبة الدخول إلى أوروبا.
يجرّنا هذا السؤال القديم حكماً إلى أسئلة أخرى منها:
هل يسهل ترميم العلاقات بين تركيا والاتحاد الأوروبي؟ وهل أخفق الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الناهض أو الحالم بنهضة أوروبا الجديدة الذي وعد أو دعا إلى «وقف النفاق» فيها كما قال في (5 يناير/2018) بشأن تقدّم مفاوضات الانضمام بين أنقرة وبروكسل وبعدما اتّخذت تلك العلاقات طوال ال2017 صفات سلبية مثل التدهور والشروخ والانهيار والتوتر والتوجس والاتهامات بالنازية والتعصّبية والإسلاموفوبيا؟ لماذا اختفى مصطلح الانضمام التركي إلى أوروبا من لسان ماكرون القائل بالعلاقات التعاقدية أو علاقات الشراكة؟ وأردوغان يعلن ملل تركيا بعد 54 عاماً من الانتظار أمام عتبة أوروبا ويكرّر أنّ التفاوض على 16 فصلاً من أصل 35 ما زالت كلّها مفتوحة بما يتجاوز بكثير الكلام المعلوك في حقوق الإنسان.
«لا» لتركيا في الانضمام إلى أوروبا قالها الفرنسيون بجهر، من قبل، ولم تساير «النعم» المخنوقة في الحنجرة الرسمية الفرنسية، كما قالتها النمسا وانقسمت ألمانيا حولها خلافاً للبرتغال وإسبانيا وإيطاليا واليونان.
لم يتبنّ المسلمون أساساً المسألة التركية بعد إعيائها، بل كان لتركيا جنوح واضح نحو الأصولية لم تمكنها في مفاوضاتها الشاقة مع الاتحاد الأوروبي من أن تتقلّد الصليب كما لم تخوّلها وضع الهلال في العنق الأوروبي. كانت تركيا في أثناء المفاوضات مع أوروبا تخفي رغباتها وطموحاتها الأصولية وتضيء على علمانيتها لكن أوروبا كانت تخفي علمانيتها وتبدو تتقدّم نحو التدين؟ وقد يعود ذلك إلى أن الولايات المتحدة، كانت وما زالت، تنظر إلى تركيا أو تبحث عن دولة إسلامية مرجعية.
يحتلّ هذا البحث عقل الغرب ، وباتت الأبحاث والأوراق تدور كلّها في مواضيع تتعلّق بالإسلام وكيفية فهمه والتعايش مع ظاهرة الإرهاب التي فلتت من عقالها وضبطها لتتجاوز الحروب الرقمية الهائلة عندما يفرغ الموت من معناه الغربي، وتصبح الظاهرة مطواعة للمصالح الكبرى في الوقت الذي تبدو فيه للعيان عصيّة على الفهم. تبدو تركيا في هذا المجال قد خلعت خياراتها الغربية المبنية على النخب التركية والمثقفين الأتراك لتنحصر في شخص أردوغان. وأكثر من ذلك، لا يعني وقوف تركيا على عتبة أوروبا وقوفاً للمسلمين، خصوصاً وأنّها لا ترضي المليار ومئتين وخمسين مسلماً في بلدان المسلمين الأخرى أعني خمس سكان العالم، بسبب من إرثها الأتاتوركي.
سيطول وقوفها أمام العتبة لعقود حافلة بالتجارب والمتغيرات والإصلاحات الكثيرة التي تفرضها قوانين الاتحاد الأوروبي ذي الثمانين ألف صفحة، والتي لا تعرف مضامينها النهايات، وهي تندرج في إطار مطّاط من المفاوضات تشبه تكسّر النصال على النصال في جسد تركيا. وتتحول أوروبا إلى مساحات تماس طويلة وبارزة منشودة بين المسلمين والمسيحيين، ولربّما ينقل الصراع الدائر في الكرة الأرضية من صراع ثقافات إلى حوار صعب ومعقد يعني فيه دخول أبناء المسلمين إلى الغرب عدم «التلوث» به وبعاداته وتقاليده وإدانة سياساته، كما يعني الدهشة بديمقراطيته وببساطة شعوبه، ويعني أيضاً، في المحصلة، إيقاظاً للدين فيه بعدما كان منبعاً للعلمانية.
drnassim@hotmail.com