تمرد زعماء أكراد العراق واستغلاله
عوني فرسخ
لم يكن الاستفتاء الانفصالي الذي أجراه مسعود البرزاني في كردستان العراق ، أول محاولة انفصالية كردية في العراق، وإنما كانت الحلقة المعاصرة لمحاولات عدة توالت منذ قام محمود البرزنجي بتمرده الأول في 20/5/1919. كما أن مسعود البرزاني ليس أول متزعم كردي يقوم بمغامرة غير محسوبة ترتد على الأقلية الكردية العراقية بتأثيرات سلبية.
وبداية، نذكر بأن الأقلية الكردية في العراق جزء لا يتجزأ من النسيج الوطني، ومواطنون لهم كامل حقوق المواطنة، وهم يتمتعون بالتعبير عن ثقافتهم الخاصة إلى جانب الثقافة العربية الإسلامية،إذ لكل مواطن منهم حق تسمية أبنائه بالأسماء التي يختارها، وارتداء الزي الكردي التقليدي، واستعمال اللغة الكردية وآدابها من شعر، ونثر، وفنون وأغان شعبية، واتباع انتمائه الديني، والمذهبي.
أما في نطاق الحقوق الأخرى الواردة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، فالأكراد كبقية مواطنيهم، سواء في حدود القانون. ويغلب لدى الباحثين الموضوعيين أن الأقلية الكردية تقارب 20 % من مواطني العراق، وأنها لم تعش عزلة اختيارية أو انعزالاً قسرياً، كما لم تواجه محاولة طمس سماتها الخاصة، أو العمل على إكسابها قسراً السمات القومية العربية، وأنه ليس من المغالاة في شيء القول إن أغلبية مواطني العراق، أياً كانت أصولهم السلالية، عرباً لغة وثقافة وقيماً وأنماط سلوك.
ثم إن المنطقة الكردية لا تشكل وحدة جغرافية، وإنما تفصل بينها عوامل طبيعية، فضلاً عن أنها تضم إلى جانب الأكراد، عرباً وتركماناً بنسب تتفاوت بين منطقة وأخرى. وفي المدن اختلط العرب بالأكراد، وتصاهروا معهم.
وكان قد برز في السليمانية عشية الحرب العالمية الأولى الشيخ محمود البرزنجي كزعيم إقطاعي كردي. وحين أخلى الجيش التركي كركوك أمده القائد إحسان باشا بالذهب كي ينظم حرب عصابات خلف خطوط الإنجليز. وعندما وقعت الهدنة طلب إحسان باشا من قائد حامية السليمانية تسليم زمام الإدارة للشيخ البرزنجي ليتولى حكم اللواء باسم الأتراك، وليكون الفوج التركي الموجود هناك تحت إمرته. لكن البرزنجي كتب للإنجليز عارضاً تسليم المنطقة من دون قيد أو شرط، وطالب بريطانيا بألا تنسى كردستان الجنوبية من قائمة الأمم المتحررة. وأبرم مع الإنجليز صفقة سلمهم بموجبها ضباط وجنود الفوج التركي كأسرى حرب، مقابل تعيينه حاكماً للسليمانية، يعاونه مستشاران انجليزيان، إداري وعسكري. وقد رفض سكان كركوك وكفري سلطته، وطالبوا بإدارة بريطانية مباشرة فلم يمانع، واحتفظت كركوك باستقلالها عنه.
وحين جرت الانتخابات العامة سنة 1921 شارك فيها أكراد ألوية الموصل وكركوك وأربيل بصفتهم عراقيين. فيما شهدت السليمانية مطالبة بحكم كردي مستقل برئاسة الشيخ محمود تزعمها شقيقه الشيخ قادر. ولم يشارك لواء السليمانية في الاستفتاء على اختيار الأمير فيصل بن الحسين ملكاً على العراق، وكان اللواء الوحيد الذي لم يشارك في الاستفتاء، ووجدها الأتراك فرصة للضغط على بريطانيا في موضوع الموصل، بأن أجروا اتصالاً مع الشيخ قادر، واجتازت قواتهم الحدود، والتقت بقوات الشيخ قادر شمال السليمانية، وهددت مدينة عقرة، واندفعت نحو العمادية. غير أن القوات البريطانية ردت الأتراك وراء الحدود. ثم أعادت الشيخ محمود ليملأ الفراغ في السليمانية بعد الاتفاق معه، واختاروه في سبتمبر/أيلول 1922 رئيساً للمجلس المحلي المنتخب، ثم حاكماً عاماً للسليمانية، وسكتوا عن إعادته تنظيم قواته، وتواصل صمتهم حتى وقع الملك فيصل الأول المعاهدة في 12/10/1922. وتوالت تمرداته حتى العام 1931، كما توالى استغلال الإنجليز لتمرداته المتوالية في الضغط على النظام الملكي لتوقيع المعاهدات المملاة.
وفي أعقاب توقيع العراق معاهدة 1930 تقدم عدد من زعماء الأكراد بعرائض وبرقيات لكل من الملك فيصل الأول، والمندوب السامي البريطاني، وسكرتير عصبة الأمم، مطالبين بتحقيق ما جاء في قرارات عصبة الأمم السابقة بشأن تأسيس دولة كردية. وتدارست العصبة الطلب وأصدرت بشأنه قراراً جاء فيه: «ولما لم يكن لهذا الطلب من سند في أعمال العصبة، لا يمكن تأييده إلا بتفسير خاطئ للقرارات التي توصل إليها مجلس عصبة الأمم في 25 ديسمبر/كانون الأول 1925 عندما ألحقت المنطقة التي يعيش فيها أصحاب العريضة بالعراق. «وعلى ذلك أوصى المجلس برد عريضة الزعماء الأكراد ما يتناول منها غرض تأسيس حكومة تحت إشراف عصبة الأمم».
وحين تعقد المقارنة بين ما كانت عليه علاقات عرب العراق بأكراده خلال العهد العثماني، بما آلت إليه زمن الانتداب البريطاني، يتضح مدى التراجع الذي شهدته العلاقات التاريخية بين نخب وجماهير الشعبين الشقيقين. كما تتضح في الوقت نفسه مسؤولية الذين أضروا بعلاقات عمرها مئات السنين. وفي تقديرنا أن النخب العراقية الكردية والعربية على السواء، مسؤولة تاريخياً لعجزها عن تقديم الاستجابة الفاعلة والقادرة في مواجهة تحديات حركات التمرد الكردية واستغلالها في مخططات السيطرة الاستعمارية على العراق.
admin@afcocpa.ae