قضايا ودراسات

ثلاثية الشرعية في الحكم

د. ناجي صادق شراب
عالم الاجتماع الألماني، ماكس فيبر، حدد مصادر الشرعية بثلاثة: التقليدية التي تقوم على التقاليد والدين، والكارزمية، وهي الصفات الاستثنائية التي تتوفر في من يحكم، والعقلانية والرشادة، أي القدرة والإنجاز، والقانونية والمساءلة. والشرعية أساسها القبول والرضا، أي الأساس في الحكم هو رضا المحكومين وقبولهم. ومظاهر الرضا والقبول لها جانبان: جانب يتعلق بالحاكم، أي درجة استجابته وقربه من المحكومين، وباختصار أن يحكم بالمحكومين وليس على المحكومين، وهنا تتعدد المظاهر، منها توسيع درجة المشاركة في صنع القرار والسياسة العامة، وتقلد الوظائف، وتوفير كل الخدمات الأساسية وبدرجات عالية تصل لحد الرفاه، والجانب الآخر خاص بالمحكومين، ويعبر عن نفسه بالحب والعطاء والولاء والانتماء.
وتتباين الدول في قربها من هذه المصادر الثلاثة للشرعية، لكنها توجد كلها بدرجات متفاوتة. والشرعية ليست مجرد قالب جامد، بل هي حالة متطورة، ترتبط بتطور حالة الحكم ذاتها، وبتطور بيئة الحكم الداخلية والخارجية، فلم يعد نظام الحكم حالة مغلقة منعزلة عما يدور حولها، بل يمكن القول إنها حالة عالمية، وهذا ما نلحظه من تعدد مؤسسات الرشادة والرقابة العالمية، والتوافق حول معايير الحكم الرشيد، ودول الرفاه، ومعايير الدول الضعيفة والفاشلة، التي على أساسها تصنف الدول على سلم الرشادة والرفاهية والسعادة العالمية.
ولعلي لا أبالغ بالقول إن أهم معايير القبول للمواطن ورضاه عن نظام الحكم القائم هو بدرجة السعادة التي يشعر بها. فالعلاقة وثيقة بين السعادة والشرعية، وهو ما يعني بروز معايير ومصادر جديدة للشرعية، ليست قاصرة على الآليات التقليدية. هذه المقدمة تنطبق على النموذج الفريد الذي تقدمه دولة الإمارات العربية المتحدة في الجمع بين مصادر الشرعية الثلاثة، وبابتكار وإبداع وسائل جديدة للشرعية تنطلق من خصوصية الحالة ذاتها، ومن رؤيتها الكونية للحكم. فمنذ نشأت دولة الإمارات وبداية تأسيس نظامها السياسي، كان الهدف لدى المؤسس المغفور له، بإذن الله، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، ليس الحكم في حد ذاته، فكان يدرك ويستوعب الطبيعة القبلية والتقليدية، وكان يدرك حجم المخاطر التي تحيط بالدولة، وقامت الفكرة الأساسية ليس على الحكم فقط، بل كيف يمكن أن يتحول الحكم إلى سلوك ملموس.
وتتمثل فكرة الحكم لدى الشيخ زايد رحمه الله، في بناء المدرسة، وشق الطرق، وبناء المستشفيات، والتحضر، ومن خلال ذلك يلمس المواطن ماذا تعني دولة الإمارات، وماذا يعني الحكم، وإدراك أن معادلة الحكم تقوم على التفاعل بين معادلتي الحاكم والمحكوم، حيث إن الشيخ زايد، رحمه الله، كان يؤكد دائماً أن أفضل الاستثمار هو في الإنسان. وهذا ما تحقق، ونجحت الدولة فيه، اليوم لدى الدولة المواطن الصالح كما الحكم الصالح. وهذا أساس الحكم الرشيد. فلم يعتمد الحاكم على حقه في الحكم، ويقول من حقي أن أحكم تاريخياً، ولم يكتف بالصفات الكارزمية التي يتمتع بها الحاكم، ليستعلي بحكمه، ويعيش في كوكب بعيد عن مواطنيه، بل بإدراك أن الحكم مسؤولية وإنجاز، وهذا ما نراه اليوم في معايير الحكم في الدولة، الحكم مسؤولية، وقدرة على الأداء والإنجاز. وهذه القدرة لا تتحقق بإرادة الحاكم بمفرده، بل برفع القدرات والكفاءات للمواطنين، وهذا لا يتم إلا من خلال الإحاطة والانفتاح على كل تجارب الحكم الناجحة في العالم، وبتوفر الرؤية الشمولية لمفهوم التطور، المتجددة بتجدد عناصر القوة الشاملة، وهذا مفهوم آخر للحكم تقوم عليه الدولة، فالقوة متجددة وتتوالد ذاتياً، وليست قاصرة على دولة بعينها، إذ إن أبواب القوة مفتوحة، والمهم امتلاكها وتوظيفها، وفي هذا السياق الحكم يكبر وينمو بكبر القوة ذاتها، وهذا ما نلمسه من تطوير الدولة لعناصر القوة الذكية، لتضفي على الدولة دوراً ومكانة معترف بهما.
ولا يقتصر جانب الشرعية على البعد الداخلي، بل يوجد الجانب الخارجي وهو في غاية الأهمية، وقد حققت دولة الإمارات تقدماً مشهوداً في هذا المجال، بتبنيها منذ نشأتها سياسة تقوم على الإنسانية والخير للدول والشعوب الفقيرة كافة، ولم تميز في سياساتها الداعمة بين دولة وأخرى. تعاملت مع الإنسانية كوحدة واحدة، أساسها الإنسان المحتاج، ولذلك نجد الخريطة الإنسانية للدولة تتسع لتغطي وتتجاوز الحدود السياسية للعديد من الدول، وتقوم بدور نشط وداعم للمنظمات الدولية، وتبني الشرعية الدولية التي تتكامل مع الشرعية الوطنية. وبهذه الرؤية تقدم الإمارات نموذجاً متميزاً للحكم وشرعيته، وهو الذي يقف وراء سر ونجاح الدولة وتطور دورها ومكانتها عالمياً.Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى