جدلية الشكل والمحتوى
خيري منصور
في النصف الأول من القرن العشرين كانت طباعة الصحف والمجلات أقرب إلى البدائية من حيث التقنية؛ لكن ما كان ينشر خصوصاً في المجلات الفكرية والأدبية عبر القرن الماضي إلى أيامنا ومعظمه لم يفقد صلاحيته بمرور الوقت، ودليل ذلك أن معظم المقالات التي نشرت في تلك المجلات تحولت إلى كتب، وهذه مفارقة تطرح سؤالاً حول الحداثة بمجمل حقولها المعرفية والفنية.
وككل الظواهر ذات الصلة بالحضارة فإن الحداثة ليست شكلاً فقط كما أنها ليست مضموناً فقط، إنها علاقة جدلية ومتحركة بين الشكل والمحتوى، وحين نقارن معظم ما يصدر من مجلات في أيامنا رغم ندرتها بما كان يصدر في الماضي القريب نجد أن تغيراً جذرياً قد طرأ على مفهوم الرسالة أو الهدف، وما يصدر الآن يغلب عليه التراكم وغياب السياق سواء تعلق بالفكر أو بالمزاج النفسي السائد؛ ولذلك أسباب موضوعية، منها أن القرن الماضي خصوصاً في نصفه الثاني شهد حراكات وطنية ومحاولات نهوض بعد سبات طويل، إضافة إلي هواجس الاستقلال، وثمة ارتباط عضوي بين مثل هذه المناخات وبين أشكال التعبير، وما عاشه عالمنا المضطرب بعد الحرب الباردة من هواجس شكل ما يشبه القطيعة مع الماضي. خصوصاً بعد أن أساء البعض منهم العولمة وما يُسمى الإنسانوية بلا حدود. فالشعوب لها بيئات ثقافية وموروثات قومية تدافع عن خصوصياتها وبالتالي عن هويّاتها!
وتذكرنا إساءة فهم العولمة في بعدها الثقافي بذلك الالتباس الذي تعرض له مصطلح الكوزموبوليتية في خمسينات القرن الماضي. فهو مصطلح ذو حدين أحدهما إيجابي يبشر بالتعايش الإنساني والآخر حق يراد به باطل؛ لأن تلك الفترة كانت تشهد حراكات شعبية للتحرر من الاستعمار والانتداب وكل أشكال الوصاية.
وكان المطلوب من هذه الشعوب أن تقفز عن واقعها، وتقلد نموذجاً ينأى بها عن الواقع، بحيث يسود الاغتراب عن الذات، ويتم التلاعب بالأولويات؛ بهدف تهميش الأولوية الوطنية وهي الاستقلال في تلك المرحلة.
وإذا كانت مجلات القرن العشرين تنقصها أناقة التقنية، وما تحقق من منجز تكنولوجي في الطباعة، فإن ما ينقص المجلات الآن هو الرسالة في بعديها القومي والإنساني!