جنوب إفريقيا.. للشؤم وجوه كثُر

كمال الجزولي
رغم تواتر الحديث، في الآونة الأخيرة، عن الفساد السِّياسي في جنوب إفريقيا، إلا أنَّه لم يبلغ، بعد، حدَّ أن يتيسَّر لرئيس الجمهوريَّة وأعوانه، تعديل النّصوص الدّستوريَّة التي تقيِّد ترشّحه للمنصب بمرَّتين فقط، فتتيح له التَّرشّح لأيِّ عدد من المرَّات يشاء، الأمر الذي يجعل «الدِّيموقراطيَّة» تستحيل إلى ضرب من «الدكتاتوقراطيَّة» (وهي كلمة صككناها لتعني حاصل المزاوجة بين ممارسة الدكتاتوريَّة والدِّيموقراطيَّة في آن واحد)! مع ذلك فإن الفضائح التي شاعت في عهد جاكوب زوما، خلال دورتي رئاسته اللتين يفترض أن تمتدّ الحاليَّة منهما حتَّى انتخابات 2019م، لم تزكم الأنوف بفساد يتعلق، فقط، بشخصه أو بالمتحلقين من حوله، وإنَّما بلغت خطورتها، مؤخَّراً، درجةً لامست فيها، أو كادت، إجماع المراقبين على أنَّها أضحت تتهدَّد، وبجديَّة تامَّة، سمعة «المؤتمر الوطني الإفريقي ANC» نفسه، حزب زوما السِّياسي الذي لم يعُد يكفيه بريقاً، بسبب هذا الفساد، كونه منصَّة أوليفر تامبو ونيلسون مانديلا التَّاريخيَّة!
حزب «المؤتمر» بنى هذه السّمعة عبر عشرات السَّنوات، منذ تأسيسه في 1912م، كقائد لنضال الشَّعب الجنوب إفريقي ضدَّ العنصريَّة، وسياسة الفصل العنصري. وتعاقب على قيادته رجال أفذاذ خلدوا، ليس في تاريخ جنوب إفريقيا، فحسب، وإنَّما في تاريخ القارَّة كلها، بل والعالم بأسره. وازدادت هذه السّمعة لمعاناً خلال معظم الفترة الماضية التي قاربت الثلاثين سنة حتَّى الآن، منذ إطلاق سراح مانديلا في1990م، وإلغاء سياسة «الفصل العنصري» في 1991م، ثمَّ فوز «المؤتمر» في 27 إبريل 1994م، في أوَّل انتخابات متعدِّدة الأعراق، حيث تولى مانديلا رئاسة البلاد، وتشكَّلت حكومة وحدة وطنيَّة شارك فيها، إلى جانب المؤتمر الوطني، كل من الحزب الوطني، وحركة الزولو أنكاتا. وفي انتخابات 1999م فاز «المؤتمر» مرة أخرى، وتولى ثابو مبيكي، خليفة مانديلا في قيادة الحزب، رئاسة البلاد. وفي 2004م أعيد انتخابه لدورة أخرى انبترت باستقالته في 2007م، في ملابسات اتهامه بالفساد.
لكن جاكوب زوما فاز في ديسمبر 2007م بقيادة المؤتمر، ثم في 2009م برئاسة البلاد، حيث جُدِّد انتخابه، في 2014م، لدورة أخرى لم تنته بعد. وتلك، بالتَّحديد، هي أكثر السَّنوات التي شهدت، خلالها، سمعة «المؤتمر» أكبر تراجعاتها، وتعرَّضت لهزَّات عنيفة لم تقتصر، فحسب، على تورّط زوما في الكثير من قضايا الفساد، وإنَّما فاقمت منها، إلى ذلك، الأزمة الاقتصادية العميقة التي أطبقت على السَّواد الأعظم من المواطنين، حتَّى لقد تجاوز معدَّل البطالة في سياقها نسبة 27 في المئة، وبلغ استياء الملايين من سياسات «المؤتمر»، وشعورهم بأنه قد تخلى عنهم، حدَّاً يرجِّح فقدانه، في مقبل الانتخابات، الأغلبيَّة المطلقة التي لطالما تمتَّع بها في السَّابق.
إذن، لئن كانت «العنصرية» شؤماً هزمه هذا الشَّعب العظيم، وتلك البلاد الجميلة، فإن «الفساد» شؤم آخر تتوجَّب هزيمته بالمثل. لذا، فإن الأمر الوحيد الذي ظلَّ متوقَّعاً بإلحاح، في ظل هذه الظروف، ووفق هذه المعطيات، وحسب منطق الأشياء، وطرائق سيرها في الحياة الطبيعيَّة، هو أن يسارع «المؤتمر» إلى ترميم ما تصدَّع من سياسات أفضت إلى الفساد، وإصلاح الآليَّات التي تسلل عن طريقها، وتغيير الشّخوص الذين تورَّطوا فيه، خاصَّة وأن الحزب تعرَّض، فعليَّاً، لانتكاسة خطيرة في الانتخابات المحليَّة عام 2016م، حيث ذهبت المدن الكبرى، كجوهانسبورج وبريتوريا، إلى المعارضة.
هكذا انعقد المؤتمر العام للحزب في 18 ديسمبر 2017م، ليرسم مساراً آخر له، ولينتخب قائده الجَّديد. وقد انحصر التَّنافس في كلٍّ من سيرل رامافوسا، الزعيم النِّقابي السابق الذي أصبح مليارديراً بعد إسقاط نظام الفصل العنصري، ونكوسازانا دلاميني زوما، الوزيرة السَّابقة التي كانت زوجة الرئيس جاكوب زوما، والتي تحظى بدعمه. وتمخَّضت تلك المعركة الانتخابيَّة عن فوز رامافوسا ب 2440 صوتاً مقابل 2261 لدلاميني.
مع ذلك تبقَّت مسألة واحدة لم يبتَّ المؤتمر العام بشأنها، رغم كونها في غاية التَّعقيد، وهي كيفيَّة استمرار جاكوب زوما رئيساً للبلاد خلال السَّنتين المتبقِّيتين من دورته ، مع وجود رامافوسا قائداً لحزب «المؤتمر» خلال الفترة نفسها! لذا كان لا بُدَّ من إجراء محادثات ماراثونية، بل وممارسة ضغوط شديدة، لإقناع زوما بالاستقالة. غير أن الحزب اضطر، مع تعنّت زوما، وعدم استجابته، لعقد اجتماع مطوَّل مخصوص، قرَّر في نهايته، فجر الثلاثاء 13 فبراير 2018م، إقالته من منصبه كرئيس للبلاد.
مهما يكن من شيء، ولأن رئاسة حزب «المؤتمر» ستتيح لرامافوسا خوض الانتخابات الرِّئاسيَّة باسمه عام 2019م، فإن عليه، قبل ذلك، أن يجابه، ومنذ الآن، جملة من مهام الإصلاح العسيرة المطروحة على الحزب تحت قيادته. أمَّا إذا استمر الحال على ما هو عليه فإن فرصته للفوز في الانتخابات القادمة ستكون في غاية الضِّيق!
kgizouli@gmail.com