غير مصنفة

جنوب شرق آسيا والتطرف

محمد خليفة

لا يشكل الإسلام حالة طارئة في مجتمعات جنوب شرق آسيا، بل هو حالة أصيلة تعود إلى عدة قرون سابقة، فقد تعرفت شعوب تلك المنطقة على الإسلام إما عبر دعاة جاؤوا من المنطقة العربية وخصوصاً من سواحل الجزيرة العربية، أو من الهند وآسيا الوسطى، وأصبح هناك دول إسلامية كاملة مثل إندونيسيا وبروناي، ودول فيها أغلبية إسلامية مثل ماليزيا، ودول أخرى فيها أقليات إسلامية مثل الفلبين وتايلاند والصين وميانمار وسريلانكا.
وعاشت الشعوب الإسلامية في تلك البلاد في وئام مع جيرانها من الشعوب والأديان الأخرى، باستثناء الفلبين التي أسهم الغزو الإسباني لها في القرن السادس عشر في إثارة حرب طويلة ضد الإمارات الإسلامية التي أسسها شعب مورو الذي يتواجد في الجنوب المحاذي لإندونيسيا، ولم يستطع الإسبان إخضاع تلك الإمارات، رغم أنهم مكثوا أربعة قرون في تلك البلاد، وبعد هزيمة إسبانيا في الحرب أمام الولايات المتحدة عام 1898 ورثت هذه الأخيرة المستعمرات الإسبانية في أمريكا والعالم ومنها الفلبين، وعندما أعطت الولايات المتحدة الاستقلال للفلبين ضمت إليها مناطق المسلمين في الجنوب والتي كانت مستقلة حتى ذلك الحين، وتعرض المسلمون في تلك المناطق لإرهاب عنيف قامت به منظمة «إلالجا» التي كانت تعمل تحت مظلة الحكومة، حيث قتلت أكثر من مئة ألف مسلم، وشردت نحو مليوني مدني مسلم، واغتصبت مئات آلاف الهكتارات من أراضى المسلمين، وأحرقت البيوت والمساجد والمدارس، ما أدى إلى ظهور جماعات مقاومة أبرزها جبهة تحرير مورو الوطنية التي أسسها نور ميسواري وسلامات هاشم، عام 1962، ولم يلبث هذا الأخير أن تأثر بفكر تنظيم «الإخوان»، فأعلن انشقاقه عن جبهة تحرير مورو الوطنية ليؤسس جبهة تحرير مورو الإسلامية، والتي ظهر من رحمها عدة فصائل إرهابية متطرفة مثل جماعة أبي سياف التي أسسها عبد الرزاق جنجلاني وهو المدعو «أبو سياف»، وبعد ظهور إرهاب «القاعدة» في الشرق الأوسط، سرعان ما انتقلت أصداؤه إلى جنوب شرق آسيا، فظهرت في الفلبين «حركة العدالة الإسلامية» التي أسسها محمد علي تامباكو الذي اعتقلته السلطات في مدينة جنرال سانتوس بجنوبي البلاد.
وفي إندونيسيا ظهرت حركة «أنصار التوحيد» كما انتشر الفكر المتطرف في دول أخرى مثل ماليزيا التي تأثر قسم لا بأس به من شعبها بلوثة التطرف. وعندما ظهر تنظيم داعش لقي تعاطفاً لدى قطاعات واسعة من مسلمي جنوب شرق آسيا، وهذا ما تم لمسه من خلال توافد مقاتلين من إندونيسيا وماليزيا وسوى ذلك من البلدان للقتال إلى جانبه في سوريا والعراق، ذلك أن هذا التنظيم أشاع بأن يوم القيامة يقترب، وأن هناك صراعاً كونياً بين الخير والشر، وأن المعركة الفاصلة بين المسلمين والغرب ستكون في منطقة «دابق» بشمالي سوريا، حيث سينتصر المسلمون وتقوم الساعة.
لكن بعد انهزام «داعش» في العراق وسوريا معاً، شرع هذا التنظيم بنقل ما تبقى من عناصره وأمواله إلى العديد من دول جنوب شرق آسيا نظراً لوجود عوامل مساعدة تمكنه من مد نفوذه في هذه الدول. أهمها الحاضنة الشعبية المتوفرة في دول عديدة، وأيضاً، هناك مساحات شاسعة من الدول الجزرية، فالفلبين تتكون من أكثر من 7000 جزيرة، وإندونيسيا، تتكون من سبعة عشر ألفاً وخمسمئة جزيرة. وهذه الجزر متقاربة من بعضها، ولها صلات مع دول أخرى مجاورة مثل ماليزيا، الأمر الذي يساعد المتطرفين على التنقل وإخفاء أنفسهم وسط الأدغال في تلك البلاد، وتتابع الحكومة الماليزية بحزم جماعات التطرف وأصدرت عام 2015 قانوناً لمكافحة الإرهاب، من أجل ملاحقة وتتبع كل من تسول له نفسه العبث بأمن الدولة تحت ستار الدين. وبعد ظهور أزمة مسلمي الروهينجا في ميانمار بسبب الاضطهاد الذي تقوم به الحكومة ضدهم، أصدرت القيادة العليا لتنظيم القاعدة في سبتمبر/أيلول 2017، بياناً جاء فيه: «ندعو كافة المجاهدين الإخوان، في بنجلاديش، والهند، وباكستان، والفلبين، إلى التوجه إلى بورما (ميانمار) لمساعدة إخواننا المسلمين، والقيام بالاستعدادات الضرورية من تدريب وما شابه ذلك، لمقاومة القمع والاضطهاد».
وبعد هذا البيان فإن ميانمار تبدو من بين كل الدول الأخرى في جنوب شرق آسيا، مرشحة بقوة، لحرب جديدة على الطريقة العراقية والسورية، فالإرهاب لا يمكنه أن يتكاثر ويتعاظم إلا إذا تبنته دول في مشاريع ضد دول أخرى منافسة لها، ورغم أن الحكومة الميانمارية مذنبة في تعاملها مع الأقلية المسلمة على أراضيها، لكن هناك دولاً غربية تريد استخدام هذه القضية لإثارة حرب «جهادية» ضد البوذيين هناك، وبما يؤدي إلى وقوع ميانمار في كنف الإرهاب، ولما كانت هذه الدولة محاذية للصين، فإن الإرهاب قد ينتقل إلى داخل الأراضي الصينية بسبب وجود أقليات إسلامية هناك ولا سيما في شينجيانج التي ينتشر فيها الفكر المتطرف بكثافة باعتراف الحكومة الصينية، ولذلك تبدو الصين حذرة في التعامل مع أزمة ميانمار، خوفاً من أن يكون ثمة مخطط خبيث يرمي إلى استهدافها هي بالذات من خلف تلك الأزمة.

med_khalifaa@hotmail.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى