حديث النفس
د. عارف الشيخ
قال لي أحدهم: أنا الآن في عمر الخمسين،مستقيم والحمد لله، وإن كنت فيما مضى قد ارتكبت بعض المعاصي، ومشكلتي أن في داخلي شيئاً أو أن أحداً في داخلي يدفعني إلى أن أعود إلى المعاصي السابقة، ويزين لي الفاحشة لدرجة أني أباشر الفاحشة في نفسي،فهل يحاسبني الله على هذا؟
قلت له: مشكلتك هذه من قبيل وسوسة الشيطان، فالشيطان لم ينسك حتى بعد استقامتك ويتمنى أن تعود إلى أحضانه، لذلك فإنه يقف لك بالمرصاد محاولاً إغواءك وفي الحديث القدسي «فيما يروى عن رسول الله عن ربه عز وجل قال: إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك، فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله له حسنة كاملة، فإن هو هم بها فعملها كتبها الله له عنده عشر حسنات إلى سبع مئة ضعف إلى أضعاف كثيرة، ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة فإن هو هم بها فعملها كتبها الله له سيئة واحدة» (رواه البخاري ومسلم).
وورد في الحديث أيضاً «إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم».
يقول العلماء: هناك فرق بين من خطرت في نفسه معصية ولكنه لم يعزم في داخله على فعلها، وبين من خطرت في نفسه معصية وعزم في داخله على الوصول إلى فعلها.
فالأول كما قال ابن رجب الحنبلي «هم بمعصية ثم تركها لله تعالى، فهذا لا ريب فيه أنه يكتب له بذلك حسنة لأن تركه للمعصية بهذا القصد عمل صالح».
«فالهمّ بالمعصية إذا خطر بنفسه كخاطرة من غير عزم على فعلها ولم يساكنه صاحبه بل كرهه ونفر منه فهذا معفو عنه، لأنه من الوساوس الرديئة التي سئل النبي صلى الله عليه وسلم عنها فقال: ذاك صريح الأيمان» (رواه مسلم).
ولكي أوضح المسألة أكثر أقول: عندما نزل قوله تعالى «وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء) (البقرة: 284) شق ذلك على الصحابة وظنوا أن خواطر النفس داخلة فيها، فنزل قوله تعالى (ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به) (البقرة: 286) (رواه مسلم) (انظر جامع العلوم والحكم لابن رجب حول شرح الحديث السابع والثلاثين).
وفرق بعض العلماء بين ذنوب تتعلق بالجوارح كاللسان والعين والأذن والفرج واليد والرجل، وبين ذنوب تتعلق بالعقل والقلب كالإيمان والكفر والحسد والكبر وما شابهها.
فالمعاصي المتعلقة بالجوارح كالسرقة والزنى والغيبة وأمثالها لا يحاسب عليها الإنسان ما دامت خاطرة في النفس.
أما المعاصي التي تتعلق بالقلب والعقل فإنه يحاسب عليها ولو كانت خاطرة، لأن محلها القلب والعقل، فمن اعتقد كفراً في نفسه فهو محاسب عليه حتى لو كتمه، ومن أبغض أحداً من غير حق فهو محاسب عليه ولو كتمه.
ولذلك فإن الفقهاء يقولون: لو نوى الصائم في نفسه أن يفطر في ذلك اليوم فإنه يعد مفطراً ويبطل صومه لأن النية محلها القلب، وفي الحديث «إنما الأعمال بالنيات» بخلاف من نوى في نفسه أن يسرق أو يزني فلا يحاسب على ذلك حتى يقوم بالفعل لأنه من عمل الجوارح ومحله القيام بذلك الفعل باليد أو بالفرج أو غيرهما.
أقول: وإنني أميل إلى هذا القول، فأفرق بين عمل مكانه العقل والقلب، وبين عمل آخر محله الأعضاء والجوارح، وهذا التعليل جميل فينبغي للناس أن يفطنوا له لأن الكثيرين يسألون عن مثله في هذه الأيام.