حقل مهجور
يوسف أبو لوز
العودة إلى مكتبة مهجورة مثل العودة إلى حقل مهجور: أشجار هرمة، وورق أصفر متهالك على وجه الرمل، وسياج من الليلك، و«ورد أقل» كما يقول محمود درويش.
كانت تنتظرني الكتب، كما كانت تنتظر الذكريات.. والسنوات الماضية التي كان فيها ذلك الشاب العشريني مندفعاً إلى القراءة كما لو يريد أن يأكل الورق، ويشرب الحبر.
نعم، الكتب تنتظر الغائب، وعندما يعود إلى حقله المهجور ينهض أبطال الروايات من بين الصفحات، وتتحوّل القصائد إلى كائنات حية، ويتحول النسيان إلى ذاكرة مفتوحة على كل ما هو ماضٍ وبعيد.
الشعر أيضاً ينتظر الغائب.. ها هو بلند الحيدري في «أغاني الحارس المتعب»= دار الآداب 1971= يقول وكأنه يهمس.. «.. لا أملك من كل الدنيا إلّا فسحة حلم..//.. لا أملك بيتاً لحنيني..//… صدراً يأويني..//.. لا أملك مأوى في أي مكان..».
عندما تقرأ كتاباً يعود في صدوره إلى أوائل السبعينات من القرن العشرين، فأنت تعود إلى ذلك الفتى الذي كان على العكس من بلند الحيدري.. كان يملك كل الدنيا..//.. وكان يملك كل أحلام الأرض، ولم يعرف الحنين بعد لأنه كان صغيراً على الحب.
تواصل تجوالك في الحقل المهجور، فتقع على رواية جمال ناجي «الطريق إلى بالحارث» = 1982=، فتقرأ.. وتتذكر ذلك الشاب الذي يعود ستينياً الآن إلى حقل مهجور.. تقرأ. «.. انطلقت الطبول، قويّة مدوّية، امتلأت ساحة سوق الثلاثاء الواسعة بجموع الراقصين، والراقصات بأثوابهن المزينة الصاخبة الألوان..». تغلق الرواية، وتذهب إلى ورق آخر.
هذه سلسلة ذاكرة الشعوب، وهذا أحد عناوينها:
«مذكرات عبد أمريكي.. للروائي فريدريك دوجلاس. الطبعة الأولى 1986، أي أنك ما زلت في قوس العشرين من العمر، تعود إلى الذكريات والسنوات، تعود إلى الفتاة السمراء ذات الشعر الأسود الطويل «حتى الينابيع»، ولكنك، تصرف النظر عن ذلك العمر، وتقرأ: «.. إنني الآن سيّدُ نفسي، وهذه لحظة عارمة السعادة يفهمها فقط أولئك الذين كانوا عبيداً ذات يوم..»، وتفكر مرة ثانية في الكتب القديمة التي كانت تغذّي الروح والعقل والقلب، بل، كانت تغذي الجسد، فكلما قرأتَ كتاباً كنت كمن يجد نفسه مدعواً إلى وليمة.
.. وفجأة، فيما أنت تتجول في الحقل المهجور.. تقع على «الغجري» علي فودة. الشاعر الشهيد الذي محت حياته طلقة «إسرائيلية» ليست طائشة في حصار بيروت في العام 1983.. تقرأ من «الغجريّ»= إصدارات 1981=.. تقرأ مرة ثانية، وتتذكر ذلك الشاب الذي كان يقرأ أكثر مما يأكل:
«.. يقول الغجري»:
كنت أظن بأن النار الأولى قد خمدت بين العشب الأخضر والأمطار././. كنت أظن بأن لقلبي النائم في صدري أوقاتاً يغشى فيها الأسرار.. كنت أظن بأن العالم قد أصبح قمحاً أو ورداً../. كنت أظنّ وكنت.. ولكن عبثاً.. فالنار هي النار.
العودة إلى مكتبة مهجورة.. مثل العودة إلى حب مهجور.
yabolouz@gmail.com